CET 00:00:00 - 13/08/2009

مساحة رأي

بقلم: القس  رفعت فكري
في المقالات الثلاثة السابقة استعرضنا دساتير جمهورية مصر العربية ورأينا أن الوثائق الدستورية التي عرفتها مصر في بداية إطلالها على التنظيم الدستوري خلت من أي إشارة إلى دين الدولة أو إلى الشرائع الدينية كمصدر للتشريع وأن المادة الثانية أدخلت إلى الدستور المصري لأول مرة في دستور 1971 وعدلت في 22 /5 /1980 لتصبح الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع بدلا من كونها مجرد مصدر رئيسي دون أداة التعريف ,

كما استعرضنا سبعة أسباب تؤكد تعارض هذه المادة مع المواطنة , وفي هذا المقال نستعرض بقية الأسباب :-
8-  وقعت مصر على المواثيق والقوانين الدولية لحقوق الإنسان ومن ثم فهذه المواثيق صار لها قوة القانون المصري وفقا للمادة (151) من دستور جمهورية مصر العربية التي تقول ( رئيس الجمهورية يبرم المعاهدات، ويبلغها مجلس الشعب مشفوعة بما يناسب من البيان. وتكون لها قوة القانون بعد ابرامها والتصديق عليها ونشرها وفقا للأوضاع المقررة ).والمادة الثانية من الدستور تتعارض مع بعض المواد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وعلى سبيل المثال المادة 6، والتي تنص على لكل إنسان أينما وجد الحق في أن يعترف بشخصيته القانونية، والمادة 7 والتي تنص على كل الناس سواسية أمام القانون ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة عنه دون أية تفرقة، كما أن لهم جميعاً الحق في حماية متساوية ضد أي تمييز يخل بهذا الإعلان وضد أي تحريض على تمييز كهذا،

وأيضاً المادة 18 التي تنص على لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة،كذلك المادة 19، والتي تنص على لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية. وكذلك تتعارض المادة الثانية مع الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية وكذلك المادة الثانية من القرار رقم 47/135 بشأن اعلان حقوق الاشخاص المنتمين الى أقليات دينية الصادرة في ديسمبر 1992 من الجمعية العامة للأمم المتحدة وجدير بالذكر ان لجنة حقوق الإنسان للأمم المتحدة في ردها على تقرير مصر عام 2002 بعنوان ( دواعي القلق الرئيسة ) سجلت اللجنة ملاحظة بشأن إعلان مصر بالتحفظ استنادا إلى الشريعة الإسلامية عند التصديق على العهد الدولى بـ  ( الطابع العام والملتبس وأيضا التحفظ المتعلق بالشريعة الإسلامية على بعض مواد الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة  وبينما مصر ترى أن الشريعة الإسلامية والمادة الثانية من الدستور تتوافق مع أحكام ونصوص المواثيق الدولية، إلا أن لجنة حقوق الإنسان تأسف ( لانعدام الوضوح الذي يغلف مسألة القيمة القانونية المعطاة للعهد مقارنة بالقانون الداخلي والآثار المترتبة على ذلك .)
مما دعا لجنة حقوق الإنسان إلى مطالبة مصر بأن (تحدد مدى إعلانها بشأن الشريعة الإسلامية أو تسحبه )

9-إن هذه المادة تتناقض  مع الديموقراطية، فالديموقراطية - في أبسط معانيها - هي حكم الشعب بالشعب، فالبشر هم الذين يشرعون لأنفسهم حسب ظروف الزمان والمكان، ولا يتلقون شرائع سماوية جاهزة لتطبيقها على واقع زمن يختلف عن زمن نزول أو سن الشرائع الدينية ولتطبيقها على ظروف مختلفة طبقاً لمصالحها  وهكذا تسعى الديمقراطية إلى فصل الدين - أي دين، عن نظام المجتمع السياسي، حتى يبقى هذا النظام ميداناً بشرياً بحتاً، تتصارع فيه البرامج السياسية والاقتصادية دون أن يكون لطائفة منهم الحق في الزعم بأنها تمثل وجهة نظر الله، وبذلك تترفع بالدين وتتنزه عن تشغيله انتهازياً لخداع البسطاء من الناس وتحرر نصوص الدين من الأفاقين والمتاجرين به لأجل مصالحهم الخاصة. فوجود مرجعية دينية في الدستور يحجر على دعاة الدولة المدنية الحداثية حرية التعبير ويترك الساحة مفتوحة ومقصورة على دعاة الدولة الدينية بينما العكس ممكن ففي الدولة المدنية يمكن لدعاة أية أيديولوجية أن يعملوا بكامل حريتهم ويكفي هنا أن نذكر بأن قانون تنظيم الأحزاب السياسية ينص في مادته الرابعة  المعدلة في يونيو 2005 والتي تنص على أنه يشترط لتأسيس أو استمرار أي حزب سياسي عدم تعارض مقومات الحزب ومبادئه أوأهدافه أو أساليبه في ممارسة نشاطه مع مبادئ الشريعة الإسلامية باعتبارها المصدر الرئيسي للتشريع .ومن هنا فلاديمقراطية حقيقية في ظل وجود المادة الثانية من الدستور المصري !!.

10 - إن هذه المادة تفعل عند اللزوم، وتستخدم _ تمييزياً _ لأجل المصالح الخاصة عند حدوث أي لون من الوان الصراع الفكري أو الاختلاف في الرأي والقول، أو عند أي شكل من أشكال الحراك الاجتماعي،  ففي مجال الدين يمكننا أن نجد الحجة ونقيضها في آن واحد، إذ أن النص الديني حمال أوجه ونصوص الدين لا تنطق بذاتها، بل تحتاج إلى من يفهمها ويطبقها من البشر، وهنا لا بد أن يظهر الخلاف، وهو أمر طبيعي ومفهوم. ولكن عندما نحول الدين إلى قاعدة دستورية _ تُطبق على الجميع رغم الاختلاف الحادث _ فإن الاختلاف يصبح جريمة تستحق العقوبة، وهو ما يعني تكميم الأفواه، إخراس الألسن، وإخماد صوت العقل، ووأد الرأي الآخر، وبسط القهر على الضمير، فيتحول الأمر من منطق الحق إلى منطق القوة، لتصبح القوة حقاً مطلقاً لأنها القادرة على فرض الأمر الواقع والتنفيذ الجبري.فوجود مرجعية دينية في الدستور يعني بالضرورة قيام رجال الدين وفقهائه وأدعيائه بتفسير النصوص الدينية والقيام بدور الرقيب على الدولة ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية وانتحال حق التفسير والتفقه فاستنادا لهذا النص تستطيع المؤسسة الدينية الإسلامية سواء تمثلت في دار الإفتاء أو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، ويستطيع من يطلق عليهم رجال الدين أو الذين أدمنوا الإفتاء في الفضائيات، أن يفرضوا وصاية على الفكر والرأي والقوانين وأن يصادروا الكتب ويخرجوا من يشاءون من حظيرة الإيمان , ونذكر أن مرشد الإخوان السابق عندما سئل عن ولاية غير المسلم على مسلم قال إن هذا الأمر سيبحثه في الوقت المناسب أهل الحل والعقد . من هم ؟ ما هي سلطاتهم ؟ من يعينهم ؟ من يحاسبهم ؟ ماذا لو اتفقوا على فرض أمور تتناقض مع معايير حقوق الإنسان العالمية الحديثة ؟ هذا فضلا  عن أن كل تحقيقات نيابة أمن الدولة العليا المتعلقة بأى مقال أو كتاب أو رأى يتم فيها استخدام هذه المادة بالاضافة إلى التلويح بها في كل الأزمات المتلاحقة من قبيل تصريحات فاروق حسني ومنع الخمور وغيرها. فمباديء الشريعة يمكن أن توظف بمعرفة من شاء فيما يشاء وقت أن يشاء !! 

11-وجود هذه المادة في الدستور يفتح الباب أمام المزايدات فأثناء الانتخابات البرلمانية قال مرشد الإخوان بأن هدفهم هو تفعيل الدستور الذي ينص على الشريعة لا أكثر ولا أقل . ويرى نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين ، أن المادة الثانية من الدستور المصري “خط أحمر لا يجوز الاقتراب منه، كما يفجر الاقتراب منه حربا أهلية في مصر”. وهذا التهديد العلني بالمذابح وحمامات الدم يبين بوضوح إلى أي مدى يمكن أن يصل إليه  دعاة الدولة الدينية من تهديد وعنف .

12-تسببت المادة الثانية في صدور بعض الأحكام التي تتنافى مع المواطنة فعلى سبيل المثال قضت محكمة القضاء الإداري المصري في القضية رقم 35721 لسنة 59 قضائية بإلغاء قرار لوزير الداخلية بتغيير خانة الديانة في البطاقة الشخصية لمن يشهر إسلامه بعد أن يقوم بتوثيق ذلك في الشهر العقاري وقد جاء الحكم استنادا إلى المادة الثانية وخاصة أن الإسلام لا يتطلب سوى النطق بالشهادتين . وبغض النظر عن كون القرارات المشار إليها تتحدث فقط عن إشهار الإسلام وليس تغيير الدين بصفة عامة فإنه في ضوء الحكم المذكور يكفي أن تطوع اثنان بسماعهما أحد الأفراد ينطق بالشهادتين لكي يصبح ذلك الشخص مسلما سواء رغب في ذلك أو لم يرغب وبكل ما يتبعه هذا التحول من تبعات>]

واستنادا للمادة الثانية عند مناقشة تعديل مشروع قانون العلاقة بين المالك والمستأجر في الأرض عام 1992 بهدف إعطاء المالك الحق في فسخ عقد الإيجار وطرد المستأجر من الأرض حتى ولو كان المستأجر ملتزما بجميع بنود العقد ويسدد الإيجار المنصوص عليه والزيادة المقررة دوريا في مواعيدها. فقد لجأت الحكومة لتمرير تعديلها لطلب فتوى تجيز الفسخ والطرد، ووفر لها مفتى الديار المصرية هذه الفتوى. واعترض وقتها خالد محيى الدين على إقحام الدين في قضية سياسية اجتماعية، وفرض رقابة ممن يسمونهم رجال الدين على حق مجلس الشعب في التشريع، خاصة أن وهناك تفسيرات وتأويلات مختلفة للنصوص الدينية، وأحكام الشريعة قابلة للتطور والتغيير على ضوء الاجتهادات المختلفة وتطور الواقع والفكر الإنساني.
 كما استخدمت نفس المادة في الحكم بالتفريق بين المفكر الإسلامي نصر حامد أبو زيد وزوجته رغم أنفهما لمجرد أنه تطوع بالاجتهاد في مسائل من نوع أن للمرأة الحق الشرعي في الحصول على نصيب من الميراث مساوي للرجل.

وكذلك قضت الدائرة الأولى بمحكمة القضاء الإداري بتاريخ 8/11/2005 برفض الدعوى القضائية رقم 3253 لسنة 60 قضائية ضد رفع شعار الإسلام هو الحل أثناء الحملة الانتخابية لمجلس الشعب وجاء في حيثيات الحكم إن هذا الشعار لايدعو إلى إثارة الفتنة الطائفية فالمادة الثانية من الدستور تنص على أن دين الدولة هو الإسلام ومبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسي للتشريع . هذا على الرغم من القول بأن المادة الثانية موجهة للمشرع وليس للقاضي !!
كذلك توجد أحكام قضائية عند تغيير الدين والقاعدة هي أنه يمكن للمسيحي أو من ينتمي لأي معتقد أن يتحول للإسلام ولكن لا يمكن للمسلم أن يتحول للمسيحية ( أو لأي دين آخر) ورغم عدم وجود نص قانوني يجرم تحول المسلم إلى دين آخر فإن التهمة تكون ازدراء الأديان، وقد ألغيت وصاية أب مسيحي على ولديه عندما أسلمت الأم لأنه حسب قول محكمة الإسكندرية الابتدائية (القضية 462 لسنة 1958) أنه "يتعين أن يتبع الأولاد الدين الأصلح، والإسلام هو أصلح الأديان"،

قضية رأفت نجيب صليب الذي كان قد أشهر إسلامه في عام 1998 ثم عاد للمسيحية بموجب إقرار صادر من بطريركية الأقباط الأرثوذكس مصدق عليه من مديرية الأمن، ولكن مصلحة الأحوال المدنية رفضت استخراج بطاقة الرقم القومي له بالبيانات المسيحية، وحين لجأ للقضاء الإداري قضت المحكمة برفض الدعوى شكلا وموضوعا واستند الحكم في حيثياته على المادة الثانية في الدستور وجاء به " .. إن النصوص التي تنص على حرية العقيدة ومساواة المواطنين يجب أن تفسر في حدود ما يسمح به الإسلام باعتباره دين الدولة الرئيسي وأساس قيامها"، وتواصل المحكمة سرد حيثياتها فتقول ".. فالدولة تخضع لأحكام وقواعد الدين الإسلامي ويتعين على كل أفراد الدولة مسلمون ومسيحيون الالتزام بهذه القواعد والخضوع لها ...الخ".

قضية أمير شوقي عبد السيد الذي ولد وعاش مسيحيا، ولكن مصلحة الأحوال المدنية رفضت استخراج بطاقة الرقم القومي ببيانات مسيحية لأن والد الطالب كان قد أشهر إسلامه حين كان عمره عامين وبالتالي يكون الطالب مسلما بالتبعية، وحين لجأ للقضاء الإداري قضت المحكمة أنه مسلما واستندت إلى فتوى صادرة من دار الإفتاء يقول نصها: "الولد يتبع أحد أبويه في الإسلام باعتباره خير الديانات ...". . ومن الملاحظ إنه في حال ذكر الحريات الدينية في دساتير العالم العربي فهي في معظم الحالات تعني حرية العبادة أو حرية ممارسة الشعائر وغالبا ماتكون محددة بعبارة طبقا للقانون وليس حرية الاعتقاد التي تعني حرية التغيير أو حرية عدم الاعتقاد.
وعندما نتحدث عن حرية الدعوة الدينية فمن المعروف إنه  يحظر على المسيحيين الدعاية لدينهم باعتباره تبشيرا كما يعاقب من يتحول إلى المسيحية بالسجن بتهمة ازدراء الدين الإسلامي !! هذا فضلا عن عدم وجود تشريع يجرم التمييز الديني وهو أمر وإن كان يشترك مع أنواع التمييز الأخرى كالتمييز ضد
المرأة، إلا أنه أخطر على النسيج الوطني من بقية أنواع التمييز.

وختاما
إن وجود المادة الثانية بصيغتها الحالية في الدستور المصري يؤكد أن مصر تفرض ديانة الأغلبية ديناً للدولة في ظل وجود المسيحيين وهم أقلية دينية كبيرة بين مواطنيها الأصلاء ووجود هذه المادة في الدستور يؤكد – مع الأسف أن مصر هي الدولة الوحيدة  في العالم ( لايشاركها أحد ) التي تفرض الشريعة الدينية للأغلبية كالمصدر الرئيسي للتشريع !!! .

 إن علينا أن نجيب بصراحة وبشفافية وبصدق مع أنفسنا على هذا السؤال, هل مصر دولة مدنية علمانية ... أم أنها دولة دينية ؟ الدستور المصري تارة يقول إنها دولة دينية وتارة أخرى يؤكد أنها دولة مدنية وعلمانية ولعل هذا هو السبب الرئيسي لتلك البلبلة ولذلك التيهان والتخبط الفكري الذي نعاني منه اليوم , ياترى ما هي الاصلاحات الدستورية التي نريدها بالضبط ؟.. هل هي الاصلاحات التي تؤكد على مدنية الدولة وحقوق المواطنة وحرية العقيدة وسيادة القانون. أم إننا نريد إصلاحات دستورية تؤكد على دينية الدولة المصرية ؟ .. إن الإجابة على هذا السؤال الهام والخطير هي التي ستحدد لنا الصورة التي ستكون عليها مصر المستقبل .

راعي الكنيسة الإنجيلية بأرض شريف – شبرا
refatfikry@hotmail.com

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٢ صوت عدد التعليقات: ١ تعليق