ليس دفاعاً عن الغرب !!

بقلم: القس رفعت فكري
تعمدتُ أن أرجئ الكتابة عن حادث مقتل السيدة المصرية مروة الشربيني لحين أن تهدأ العواطف الجياشة, فحين تكون المشاعر هائجة وثائرة ومتأججة يصعب أن يوجد أي حوار هادئ عقلاني, مما لاشك فيه أنه أمر محزن ومؤلم أن تُقتل السيدة المصرية مروة الشربيني وأن يُصاب زوجها بإصابات بالغة في واحدة من محاكم مدينة درسدن الألمانية, على يد واحد من المتعصبين في ألمانيا, وترجع تفاصيل القصة إلى خلاف بسيط في حول أرجوحة أطفال في إحدى الحدائق بألمانيا وتحول الخلاف حول من يلعب من الأطفال أولاً على الأرجوحة إلى قيام الشخص المتعصب بسب السيدة مروة الشربيني بسبب ارتدائها للحجاب, فما كان من المجني عليها إلا أن مارست حقها القانوني وشكت الجاني فحصلت على حكم لصالحها من المحكمة الألمانية, فعلى الرغم من أنها إمرأة ومسلمة ومصرية وترتدي الحجاب, إلا أن الحكمة أعطت لها حقها الذي كفله لها القانون, فهذه هي عدالة الغرب التي لا تفرق بين إنسان وآخر لا على أساس لون أو جنس أو دين .

وكان لافتاً للنظر أن تتناول معظم الصحف المصرية هذه القضية بطريقة فجة غير موضوعية بها الكثير من التهويل ويغلب عليها طابع التعميم , فكانت مانشيتات الصحف في معظمها – حتى الصحف القومية -  تتهم الغرب بالعنصرية والتعصب والعداء للشرق ومعاداة كل ما هو عربي على الرغم من أن الحادث هو حادث فردي قام به فرد واحد متعصب, وعلى الرغم من أن المحكمة حكمت لصالح مروة الشربيني الأمر الذي أثار حفيظة المتطرف فقام بقتلها وإصابة زوجها, وفي غضبنا غاب العقل وانعدمت الضمائر ونسينا أو تناسينا أن هناك ملايين العرب والمسلمين الذين يعيشون في حرية وأمان في أمريكا وبلدان أوروبا ويمارسون جميع حقوقهم بكل حرية وكان من أسباب هجرتهم إما الفقر في مجتمعاتنا, أو غياب الحريات العامة والمساواة بين البشر, أو بسبب الاضطهاد الديني, أو طلباً لأحدث ما وصل إليه العلم والمعرفة, ولو طلبت من أي شخص عربي يعيش في الغرب أن يعود ليعيش في وطنه لسمعت منه الكثير والكثير من المقارنات عن احترام الإنسان وحقوقه وحريته والمساواة التامة بين المواطنين بغض النظر عن لونهم ودينهم وجنسهم وجنسيتهم, والديمقراطية التي يتمتع بها المواطن الغربي, وغيرها من الأمور التي لن تكون في صالح العالم العربي بأي حال من الأحوال    .
ومن الطريف إنه قبل مقتل مروة الشربيني بأسابيع قليلة انفجرت قنبلة بدائية في ميدان الحسين في قلب القاهرة تسببت في قتل سائحة فرنسية, كما وضعت قنبلة أخرى أمام إحدى الكنائس بالزيتون بغية قتل أشخاص مختلفين في الدين, هذا فضلاً عن بعض الاعتداءات المتكررة على كنائس وعلى مسيحيين, وعلى الرغم من هذا لم تتناول الصحف المصرية هذه الموضوعات المهمة والشائكة بنفس الكيفية التي تناولت بها قضية مروة الشربيني بل كان هناك الكثير من التهوين ووصف هذه الأحداث بالفردية.

من الظلم البين أن نتهم الغرب بالتعصب والعنصرية بسبب حادث فردي من شخص متطرف, ومن الخطأ الفادح أيضاً أن نتعامل مع الغرب بعقلية ( نحن وهم ), فالغرب يحترم حقوق الإنسان ويقدر مساواة المرأة بالرجل ولايمانع في بناء دور عبادة للمسلمين وغيرهم من الوافدين على تلك البلدان, فعلى سبيل المثال دارت مناقشات ساخنة داخل البرلمان السويسري حول أحقية المسلمين - الذين لايزيد تعدادهم عن 6% من عدد السكان في سويسرا -  في بناء مساجدهم وارتفاع مآذنها حتى لوزاد ارتفاعها عن جميع أبنية القرية , وقفت النائبة المسيحية يريس هوبر والتي تنتمي للحزب الديمقراطي وقالت " أنا مسيحية مخلصة لكني لا أقدر أن أصلي في الكنيسة إذا كان هناك شخص متدين آخر من ديانة أخرى لا يستطيع أن يمارس شعائره الدينية بذات الحرية التي أتمتع أنا بها " وأضافت هوبر " عندما رأيت مئذنة المسجد في مدينة زيورخ أصابتني الدهشة وخيبة الأمل لأنها مئذنة صغيرة وتمنيت أن تكون مئذنة المسجد شاهقة الارتفاع أنيقة المظهر رائعة الفن حتى تكون فخراً لنا نحن السويسريين المسيحيين الذين يتحدون مع إخوتهم المسلمين في كل الحقوق وفي كل الواجبات " وبعد 5 ساعات من المناقشات الساخنة صوت البرلمان إلى جانب حق المسلمين بأغلبية ساحقة 129 موافقين و 50 معارضين, هذا هذا هو الغرب الذي نلعنه في كل صباح ومساء متهمين إياه بالتعصب وكراهية العرب والمسلمين .

وأنا هنا لا أبرأ الغرب بالكامل من التعصب وكراهية الآخر , فمما لا شك فيه يوجد هناك متطرفون ومتعصبون, ولكن الموضوعية تحتم علينا أن نقول أن عدد المتعصبين في عالمنا العربي يفوق كثيرا عدد المتعصبين في الغرب, وزيادة مساحة الكراهية في شرقنا تفوق بكثير عدد من يكرهوننا من الغربيين, إن السبب الرئيسي لكل أحداث العنف هو التعصب وكراهية الآخر المُغاير, والشعور بالتهديد من وجود آخر مختلف, والتعصب هو اتجاه نفسي لدى الفرد يجعله يدرك فرداً معيناً أو جماعة معينة أو موضوعاً معينا إدراكاً إيجابياً محباً أو سلبياً كارهاً دون أن يكون لذلك ما يبرره من المنطق أو الشواهد , وتقف وراء التعصب أسباب عديدة, فالتعصب أولاً وقبل كل شيء هو نزعة ذاتية أنانية"نرجسية" كامنة في كل كائن بشري، ولكنها تطفو إلى السطح وتبرز إلى الواقع حين يتهيأ الجو الملائم لها، حين تواجه الذات "الأنا" بالآخر وتتصور أنه يتوقف على هذا الصراع مسألة الوجود من عدمه. فالمسألة إذن هي تصور ـ لا إيمان راسخ ـ بأن "الآخرين هم الجحيم" كما يقول سارتر، إن التعصب هو تقديس للأنا وإلغاء للآخر، فكل ما تقوله "الأنا" يدخل في حكم الصحيح المطلق، وكل ما يقوله الآخر يدخل في حكم الخطأ الفادح, ويقود هذا إلى موت لغة التواصل والحوار، وحين يموت منطق الحوار تنطق الحراب والبنادق وتحفر الخنادق وتستباح الدماء.
إن التعصب إنغلاق وانكفاء نحو الداخل وارتداد على الذات وتقوقع في زاوية ضيقة، ورؤية قاصرة للكون، والبشرية في سعيها لتحقيق المجتمع الإنساني المثالي تحتاج دائماً إلى الانفتاح والنزوح نحو الخارج واستشراف الآفاق البعيدة وتمزيق الشرانق التي ترسم الدوائر الضيقة, إن البشرية بحاجة إلى التآلف والتآخي والتكاتف واقتسام المعاناة بدلاً من التخندق والمواجهة ورسم التخوم العازلة وهدم جسور التواصل التي تؤدي في النهاية إلى الإرهاب ذلك الكابوس الذي تعاني منه البشرية.

 إننا والأوربيون والأمريكيون  في مركب واحدة, و علينا أن نكف في شرقنا عن ترديد مقولة ( نحن وهم ) لأن الحقيقة الثابتة أن الآخر هو جزء من حياتي, جزء من عالمي الخاص,  وهو في رقبتي على طول المدى,  فلا يمكن أن أعيش بدون الآخر ولا أستطيع حتى أن أمارس العبادة بدون الآخر بل لا أستطيع الوصول إلى الله بدون الآخر, والقارئ للتاريخ سوف يكتشف أن المجتمعات الإنسانية تزدهر بقدر حرصها على مبدأ التنوع والتعدد وقبول الخلاف والاختلاف, وأن أحوالها تتدهور عندما تقاوم هذه الشروط الأساسية وتقلل من شأن التنوع والتعدد وقبول الاختلاف, فالآخر هو جزء من التنوع الذي يتمتع به كل مجتمع وهو التنوع الذي صاحب الإنسانية منذ أن وعى الإنسان حقيقة أن تعميره للكون لا يمكن أن يتم إلا بمشاركة عامة مع كل إنسان خلق على شكيلته, ووجد وعاش معه تحت السماء الواحدة وعلى الأرض الواحدة, وإذا كانت الإنسانية قد صاحبت التنوع دائما فإنها صاحبت هذا التنوع من خلال وجود الآخر المختلف في اللون والعرق والنوع والدين والعقيدة, فكان تعايشها مع الآخر هو التعايش مع التنوع الذي أثرى ماضيها ويثري حاضرها ولا شك أنه سيثري مستقبلها, وإن كان التعامل مع الآخر لم يتحقق دائما في إطار من الاعتراف المشترك والاحترام المتبادل والتسامح والقبول وإن كانت المسيرة الإنسانية شابتها في تعاملها مع التنوع ومع الآخر المغاير الكثير من المشاكل التي أعاقت بعض مراحل تطور هذه المسيرة وأخرت تقدمها فعلينا أن ننسى ما وراء ونمتد إلى ما هو قدام. واذا كنا نقر بأن الحياة هي صراع, والصراع هو من أجل البقاء، وأن البقاء للأقوى, فهذا لا يعني بالضرورة أن هذا الصراع يستوجب إلغاء الآخر وإعلان سيادة "الأنا" عملاً بمبدأ "من ليس معي فهو ضدي" ، بل ينبغي أن يكون الصراع من أجل إبراز الخير للإنسانية, والبقاء سيكون الذي يناضل من أجل سيادة قيم الحرية والمساواة والإخاء والخير والسعادة لصالح البشرية جمعاء دون تمييز لدين أو لون أو عرق أو قومية أو شرق أو غرب, إن  الحضارة الإنسانية ازدهرت وازدهت بالتنوع, ولنتيقن أن الأحادية لم تصنع إلا أفولاً وذبولاً, لذا فكم نحتاج لأن نختلف ونأتلف, ولنتأكد أن اللحن الواحد لايمكن أن يعطي نغماً جميلاً , والعصفور الواحد لا يمكن أن يصنع ربيعاً,  والزهرة الواحدة لا يمكن أن تصنع بستاناً.

راعي الكنيسة الإنجيلية بأرض شريف – شبرا
refaatfikry@hotmail.com