كمال زاخر   
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
8 ـ الفضاء القبطى  : شظايا السياسة وصراعاتها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حين كان علمانياً كان سعيه إعادة الإعتبار للدور العلمانى فى الكنيسة، وتكامله مع دور الإكليروس، وآيتنا حدث الدفع باسم معلمه حبيب جرجس فى معترك رسامة مطران للجيزة، وكانت مصادمة استدعت فيها الكنيسة الشرطة فى حفل رسامة راهب لهذا الموقع حين صرخ "تجمع علمانيي مدارس الأحد" مقاطعين طقس الرسامة "غير مستحق ... غير مستحق"، وتم اخراجهم خارج المحفل، ومن يراجع مقالات مجلة "مدارس الأحد وقتها، وكان صاحبناً مديراً ثم لاحقاً رئيساً لتحريرها، يلحظ احتشادها بما يؤكد ويوثق ويقنن هذا التوجه بأسانيد تاريخية وتقليدية، وحين صار بطريركاً تبنى الموقف المستقر باقصاء العلمانيين، وكانت حججه فى الحالتين حاضرة، وفى كل مرة يتجه فيها إلى رسامة أحد العلمانيين من دوائر رفاقه يصر على دخوله الدير ليصير راهباً ولو لأيام أو شهور توطئة لرسامته اسقفاً.

وفى هذا السياق نتوقف عند شخصين فقد نجد عندهما ما يفيد فى فهم شخصية من ادار تلك المرحلة، الأول المهندس مكرم اسكندر نقولا الذى رسم اسقفاً لدمياط ورئيساً لدير القديسة دميانة ببرارى بلقاس، انبا بيشوى، ترهب في 16 فبراير 1969 باسم الراهب توما السرياني، وتمت رسامته اسقفاً في 24 سبتمبر 1972، (رهبنة ديرية نحو أربع سنوات) وتولى سكرتارية مجمع الأساقفة فى الفترة من 1985 (عودة البابا شنودة من الاقامة الجبرية بعد مصادمة وقرارات السادات التعسفية فى 5 سبتمبر 1981)، وحتى 2012 عقب رحيل البابا الى الأخدار السماوية.

والثانى الأستاذ كمال حبيب الذى اختار التكريس والخدمة بين الشباب، وكان رائداً فى خدمته، ورسم اسقفاً لإيبارشية ملوى، بإسم أنبا بيمن،  ترهب فى 23 يونيو 1972 باسم الراهب انطونيوس الأنبا بيشوى، وتمت رسامته أسقفاً عاماً فى 22 يونيو 1975، ثم تم تجليسه  أسقفًا لإيبارشية ملوي فى13 يونيو 1976(رهبنة ديرية ثلاث سنوات).

كان البابا البطريرك يعبر لحظة قاسية وهو يشهد دولة بكل اجهزتها وتياراتها تناصبه العداء، بشكل سافر فى عهد الرئيس السادات، وفى تصاعد متواتر بلغ ذروته فى 5 سبتمبر 1981، بصدور قرار سحب اعتراف الدولة به كبطريرك واعتقاله وتحديد اقامته فى دير الأنبا بيشوى بوادى النطرون، ومصادرة الترخيص باصدار مجلة الكرازة، والغاء الإجتماع الإسبوعى له بطبيعة الحال، ومنع الزيارات الى ذلك الدير لإحكام التضييق عليه.

ولم يتغير الأمر فى عهد الرئيس مبارك، فقد بقى الوضع على ما هو عليه، ولكن من خلال ما يشبه الحرب الباردة، كانت الدولة وأجهزتها فى العهدين تحاول أن تكسر شموخه، وتسعى لأن تملى عليه شروطها، فيما الكنيسة تعانى تربصات وأفعال لا تقل عنفاً من نفس الجهات، التى اطلقت يد الجماعات المتطرفة لتعيث فى الوطن ارهاباً وتمزيقاً، وكان الأقباط وكنيستهم الذبيحة الذى اتفق الفرقاء على تقديمها على مذبح السلطة، وعقدوا صلحهم فيما بينهم، بينما نيران المذبح تلتهم الذبيحة، فيتنسمونها بخوراً يدغدغ احلامهم، التاريخية والآنية.

شئ ما انكسر داخل الرجل ... كان طرفاً فى معركة سياسية اقتحمها ولم يكن يمتلك ادواتها، ولم يدرك انها تختلف عن معاركه داخل الكنيسة.

ومن يقترب من المشهد الكنسى يضع يده على تطورات ادارة البابا البطريرك له، من بداية حبريته، ثم تصاعد المواجهة مع الدولة والجماعات المتطرفة، ثم مرحلة العزل والاعتقال (التحفظ)، ثم عودته الى مقر كرسيه، كان انفراده بالقرار الباب الذى أوصد عليه وجعله يقف منفرداً فى مواجهة طوفان الأنواء، فقد دجن المجلس الملى، واعاد هيكلة مجمعه ليسوده اهل الثقة المفتقرين فى أغلبهم للقدرة على المواجهة، وابعد كل من يخالفه الرأى من أهل الخبرة وأحال اختلافهم إلى ساحة العقيدة ليضمن تجييش العامة، فكانت اللحظة سانحة لتصطاده القوى المتربصة به.

لم يكن تصعيد مطران دمياط، الأنبا بيشوى، الى موقع سكرتير مجمع الأساقفة (1985 ـ 2012) مجرد استحسان، بل جاء فى هذه المرحلة المنكسرة ليصير العصا الغليظة فى يد البابا البطريرك، فى مواجهة من يُراد التخلص منه، وفى دعم نفوذ البابا، لتشهد الكنيسة فى تلك الفترة أكبر حملة محاكمات (تطهير) فى صفوف الاساقفة والكهنة والخدام العلمانيين أيضاً، وكانت التهم التى تحاصر المستهدفين تتشابه مع نظيرتها فى الأنظمة السياسية المستبدة؛ الإنحراف العقيدى، الفساد المالى، الفساد الأخلاقى، وهى ثلاثية تصادف هوى عند العامة.

كان التلويح بإحالة أوراق شخص لنيافة مطران المحاكمات الكنسية، كفيلاً بإرهابه، وضمان خضوعه، وغنى عن البيان أن كثيرين تصدوا لهذا الأمر وبينوا افتقار تلك المحاكمات للضوابط القانونية التى توفر لها العدالة وتضمن للمحال اليها حقوقه الأساسية، فلا علنية ولا حق الدفاع بشخصه أو بانتداب محامى والأحكام نهائية غير قابلة للطعن، والقاضى هو نفسه الادعاء والجلاد. فاستكان الباقون وقد ادركتهم الحكمة من مشهد الرؤوس الطائرة.

كان الاستاذ كمال حبيب من الرعيل الأول من المكرسين، وكان يرى فى التكريس طريقاً عملياً لخدمة الكنيسة وأجيالها الواعدة، وتبدأ حركة التكريس المنتظمة مع حلول عام 1958، باتفاق نفر من العلمانيين على تأسيس "بيت التكريس" بأحد احياء القاهرة "حدائق القبة" ثم ينتقلون به بعد عام إلى الضاحية الهادئة ـ وقتها ـ حلوان، وتنطلق منه رسالة جديدة تسعى للشباب تقدم لهم قراءة ميسرة فى كنيسة الآباء وتخرج من كنوزهم ما احتفظت به خزائن المخطوطات اليونانية والقبطية، فى كتيبات صغيرة. ثم تعود مجدداً إلى حدائق القبة، بعد أن اجتذبت الرهبنة ثلاثة من أعمدتها الأربعة.

كانت حركة التكريس تؤمن بأن إعادة بناء ما تهدم يبدأ فكراً، لذلك كان عنوانهم "بيت التكريس لخدمة الكرازة"،  وطفقوا يترجمون كتابات الآباء؛ آباء ما قبل مجمع نيقية وآباء مجمع نيقية وآباء ما بعد نيقية، عن اللغات الحية، وينضم إليهم أحد أعمدة اللغة اليونانية الأستاذ صموئيل كامل عبد السيد، للبدء فى تعليمها لأعضاء بيت التكريس ومريديه، كان الأب متى المسكين هو الأب الروحى لهذه المجموعة ولبيت التكريس.

لم ترحب الرئاسة الكنسية، آنذاك، بتجربة بيت التكريس، فى سياق المواجهة المتوارثة بين الإكليروس والعلمانيين، والتى تفجرت مع أول تشكيل للمجلس الملى (1874م). واستمر التحريض على بيت التكريس من دوائر القيادة الكنيسة ومن خارجها، فيغلق البيت ابوابه وتقصد قياداته الدير للرهبنة، بينما يتمسك الدكتور نصحى عبد الشهيد، ببقاءه علمانياً وبمواصلة البيت لرسالته، فيعود ادراجه الى مقره القديم بحدائق القبة ليبدأ مرحلة جديدة، وينأى بنفسه وبخدمته وبالبيت، بجَلَد وإصرار، عن صراعات تلك الفترة، ولا يشتبك فى أية معارك، متسلحاً بالصمت المطبق، فقد أدرك مبكراً أهمية رسالة التكريس التى نذر نفسه لها.

يبدو أن الكنيسة متمثلة فى مجمعها لم تسترح لوجود مكرسين لهم ثقلهم فى فضاء التعليم الكنسى، حتى لا يصيروا كياناً مزاحماً للرهبنة التقليدية، فى الاختيار لمواقع الاسقفية، وكان الاستاذ كمال حبيب خادما مثالياً يجمع بين العفة والنقاء والعلم والقدرة على اقناع الشباب والتحاور معهم، ولم يترك لمتعقبيه فرصة لتشويهه أو فض المتحلقين حوله فى محاضراته الثرية، فكان الإلتفاف لإقناعه بقبول الاسقفية لتعم الفائدة من علمه ورؤاه، وكان المتوقع أن تسند اليه اسقفية التعليم، فتواصل دورها الذى اطلقه اسقفها المؤسس، أو انشاء اسقفية للثقافة تتجاوز اشكالية وجود اسقف التعليم المؤسس، وتسند اليها مهام نشر الثقافة القبطية، لكن الذى حدث تسكين الأسقف الجديد فى ايبارشية ملوى، لتستغرقه همومها ومشاكلها، وتبتلعه دوامة لم تكن له ولم يكن لها، وتبقى قمة التعليم بلا مزاحمة.

تشهد الكنيسة بامتداد اربعة عقود سعياً حثيثاً لرهبنة الفضاء العام للكنيسة وتنامى اختلالات الأديرة، وهو ما سنتوقف عنده لاحقاً فى محاولتنا فهم حالة الكنيسة المعاصرة.