الأقباط متحدون - مركب رشيد.. انتشال حزن المياه العميقة
أخر تحديث ٠٨:٤٠ | الثلاثاء ٢٧ سبتمبر ٢٠١٦ | توت ١٧٣٣ش ١٧ | العدد ٤٠٦٥ السنة التاسعة
إغلاق تصغير

مركب رشيد.. انتشال حزن المياه العميقة

خالد عكاشة
خالد عكاشة

ما يتجاوز الـ160 ضحية فى مركب تهريب للبشر إلى مجهول الهجرة خارج حدود الوطن، والرقم مرشّح للزيادة، حادث يستدعى الحزن الفطرى والأسى المصحوب بالغضب التلقائى، وتلك المشاعر الإنسانية لن تُرهق صاحبها طويلاً فى البحث عن مسبّبات انطلاقها، لكن ما يُمكن أن يستهلك بعضاً من الوقت فعلياً هو التفتيش عن بعض صيغ الهجوم على هذا الحزن، وللغرابة أنه بدا أسرع من عمليات الإنقاذ وانتشال المشهد المعقّد، وكعادة الكثير من الحوادث الأخيرة ظهر الاستقطاب الحاد ليحتل مكانه على ضفتى الصورة، ليمنع أى إبحار ممكن فى ما بينهما، ولاعتبارات تباعد الضفتين استدعى الحديث أو التعليق استخدام أكبر قدر من الصراخ لضمان وصول أو «طغيان» الصوت!

الضفة التى برّرت الإبحار غير القانونى والقيام بمغامرة أقرب إلى التهلكة المتعمّدة، أحالت رغبات ومشاعر هؤلاء الضحايا وذويهم إلى مساحات هائلة من الإحباط والانسداد المعيشى، وفى هذا بعض من الحقيقة، يرتكب خطيئة كبيرة من يحاول تجاهلها أو المرور عليها بخفة، لكن فى سياق هذا الطرح قرّر أهل هذه الضفة أن يخرجوا سياطهم ليجلدوا أهل القرية بأكملها، ولم يخلُ المشهد من استخدام السباب والتدنى فى القول، ولم يستثنِ هؤلاء مثلاً أصحاب أعمال يصرخون ليل نهار، بحثاً عن أيدٍ عاملة، مثّل غيابها وعدم تأهيلها تعطيلاً حقيقياً لأعمالهم رغم استعدادهم لدفع مقابل محترم لهذه الأيدى العازفة عن العمل، وفى هذا يُسأل أصحاب المشروعات الزراعية أو الصناعية، على وجه الخصوص، وهما النشاطان اللذان من المفترض أن يُشكلا قاطرة النمو لأى دولة، تلك المشكلة وهذه الملابسات الواقعية لا تُخصم من حجم المأساة، بل هى تسحب هؤلاء تجاه المياه العميقة التى لا يجيدون السباحة فيها، فاليد العاملة المصرية لا تريد أن تعمل فى النشاط الجاد المنضبط الذى يستلزم جهداً حقيقياً، (الأجر اليومى للعامل الزراعى يتراوح بين 100 و300 جنيه، حسب المهارة)، لكنها المهنة التى تآمرنا عليها جميعاً رغم محوريتها، وأصحاب تلك الضفة، فضلاً عن أنهم لا يجيدون الاقتراب من مناطق لوم المواطن، ويفضلون عليها السباحة فى المياه الضحلة المجانية فى الهجوم على السلطة (أى سلطة)، لهم كل الحق فى الحزن والتأسى.

وعن الضفة المقابلة التى تحاول أن تبدو متسلحة بالعقل وتمنطق الأمور، متى كان للحديث من هذا النوع مكان فى مأتم عزاء، وفى أى عرف مقبول يمكن ممارسة الهجوم على الضحية حتى إن كان قد ألقى بنفسه من النافذة، ومقاربات من نوعية نشاط السوريين التجارى رغم صحته وجديته لكن الصمت كان أفضل، أو هكذا أعتقد، احتراماً وانتباهاً لحالة مأساوية مركبة، لم نعطِ لها القدر الذى تستحقه، فالاستثارة التى بدت وكأنها تلاحق أى كلمة من الضفة الأخرى لتصفعها بعشر كلمات مضادة، دفعت أهل تلك الضفة إلى ما يشبه استهداف عبور الألم بأى ثمن، فظهر بالسوق كثير من العملات المزيفة التى لا تشترى شيئاً، ولم يكن لها مكان أو قابلية للتداول، وفى ظل هذا الضجيج على تلك الضفة تناسى أهلها أن من المسببات الرئيسية للجريمة قدر كبير من «الجهل»، وهذه الأخيرة هى خطيئتنا جميعاً، صناعة وسكوتاً وتقاعساً فى حق أنفسنا، وحق أهالينا الذين لا يدركون عناوين الاستراتيجية والخطر ومعدلات ومستلزمات النمو، ربما ترجمة الجملتين الأخيرتين إلى أرقام وشرائح وظيفية ممن هم مشاركون بصناعة تلك الخطيئة، كفيلة بإصابة أهل تلك الضفة بقدر من الاكتئاب! الإبحار بعيداً عن هاتين الضفتين والتنقيب فى المياه العميقة، يجعلان النظرة إلى الشاطئ بانورامية كاشفة، ليتبدى الكثير من أسئلة الفساد الهائل الذى صاحب تنظيم وتمرير رحلة الموت بعيداً عن العيون، وتستتبعها فاعلية ومهارة أجهزة الرقابة والأمن التى يُفترض أنها تمتلك آليات إجهاض مثل تلك الجرائم، وهل كان هناك قصور ما فى عمليات الإنقاذ وفى غيره من التفاصيل، دفع المسئولين الحكوميين الرسميين إلى تفضيل الغياب المعتاد والصمت الضبابى، والاكتفاء، بجانب كون الحدث «جريمة»، لصياغة الذرائع، والهروب من أدوار مطلوبة وحضور فاعل فى حدث له من الأبعاد السياسية والإنسانية الكثير الذى من الممكن العمل عليه، على الأقل لضمان علاج فجوات الإحباط وترميم المشاعر وتبيان الأخطاء التى نستهدف علاجها، فالقوة والأقدام الثابتة الجادة على رمال مثل تلك الشواطئ الحزينة هى التى يبحث عنها الثكالى والغاضبون على السواء، ومن قبلهم الوطن الذى يحفر لنفسه مرافئ جديدة تضمن القدر الأكبر من الرسو الآمن بعيداً عن الخطر، وعن هذا النوع المركّب من الحزن.
نقلا عن الوطن


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع