(د. أشرف ناجح إبراهيم عبد الملاك)
كَمْ مِن مَرَّة طُرِحت عليه أسئلة عديدة وكان لا يجيب عليها، بل كان يردّ أحيانًا على السّؤال بسؤال آخر (مت 21)؟ وكَمْ مِن مَرَّة كان بإمكانه أنْ يُعطِي دروسًا ومحاضرات رائعة إزاء مواقف عِدّة، ولكنّه كان يكتفي بالصّمْت أو حتّى بالهروب (لو 4/31-37)؟ ولنأخذ موقفًا آخر مِن حياة يسوع، لعلّه أوضح وأبلغ مِن هذا كلّه: محاكمته أمام السّنهدريم وهيرودس وبيلاطس (مت 26 و27؛ مر 14 و15؛ لو 22 و23؛ يو 18 و19). لا يخبرنا أيُّ موضع في الأناجيل أنَّ يسوع ألقى خِطَابًا مُطوَّلًا على محاكميه، أو قام بمُرَافَعَة قَانُونِيَّة ليدافع مِن خلالها عن نفسه وعن قَضِيَّته؛ على العكس، يقول لنا الإنجيلُ إنَّ يسوع التزم التزامًا تامًّا بالصّمْت. وعندما سُئِل أسئلة متعدّدة عن ذاته وأعماله وتعاليمه وتلاميذه، لم يجيب بشيء، وأحيانًا أجاب بكلمات قليلة جدًّا! فهل كان المسيحُ عاجزًا عن الحديث في مثل هذه المواقف وهو المعلّم المشهور، على مدار كلّ العصور؟ وهل لم تكن لديه الحُجج والبراهين الكفيلة بإظهار دليل براءته ومقاصده النّبيلة؟ فلماذا اكتفى إذًا بالصّمْت موقفًا وكان بإمكانه الحديث والكلام؟ أجل، لأنّه أدرك– وهو العارف بقلوب البشر– أنَّ كلامه في مثل هذه المواقف والظروف لن يجدي نفعًا؛ بل على العكس، إنَّ صمته سيكون حديثًا مفعمًا بالكلمات العميقة ذات مَخْزى. لقد أدرك أنَّ كلامه سيكون كلامًا صامتًا، وأمَّا صَمْته فسيكون صَمْتًا بَليغًا ومُتكلِّمًا وحكيمًا.

ومِن المُفيد هنا تذكُّر موقف يسوع في قِصّة "المحقّق أو المفتّش الأكبر"، التي جاءت في رواية الأديب الرّوسيّ الكبير فيدور دوستويفسكي: "الإخوة كارامازوف". فهي تحكي عن رجوع متخيّل ليسوع المسيح إلى الأرض، قبل مجيئه الأخير، إذ يظهر بين النّاس في صورة بشريّة ويقوم بأعمال عظيمة ومعجزات مثل التي قام بها في الماضي. ويتخيّل دوستويفسكي أنَّ "المحقّق الأكبر"– كاردينال عجوز وراهب وعالم لاهوت– يقوم بسَجْن يسوع ومحاكمته بتُهمة الهَرْطَقَة والإزعاج. ولكن، ماذا كانت رَدّة فعل يسوع على هذا كلّه؟ أجل، الصّمْت البَليغ والمتكلِّم والحَكيم. فيقول دوستويفسكي على لسان راوي القِصّة أو القصيدة– إيفان–: «صمت كبير المفتشين ينتظر من سجينه ردًا. إن صمت السجين قد ثقل على نفسه. لقد اقتصر أسيره طوال مدة كلامه على أن يحدّق إليه بنظرة رقيقة نافذة، عازمًا عزمًا واضحًا على أن لا يدخل في مناقشة معه. كان العجوز يرغب في أن يجيبه السجين ولو بكلمات لاذعة أو رهيبة. ولكن السجين لم ينطق بكلمة واحدة. وهذا [؟] هو يقترب من العجوز فجأة فيطبع قبلة رقيقة على شفتيه الشاحبتين شحوب شفتي من بلغ من عمره التسعين. كان ذلك كل جوابه. ارتعش العجوز، واختلج شيء ما في طرفي فمه. واتجه نحو الباب ففتحه وقال لسجينه: "اذهب الآن، ولا تعد بعد اليوم أبدًا، أبدًا!" وأومأ له بيده إلى "الشوارع المظلمة المقفرة من المدينة". وانصرف السجين» [فيدور دوستويفسكي، الإخوة كارامازوف، ترجمة سامي الدروبي، المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، 2010، ص. 214-215].

(د. أشرف ناجح إبراهيم عبد الملاك)