مهندس عزمي إبراهيم
كثيراً ما نسمع ونقرأ مَدحاً في عصر "الزمن الجميل" خاصة من أبناء مصر وغير أبناء مصر الذين عاصروا ذاك الزمن، أو من أبنائهم الذين عاشوا بعضه أو سمعوا من آبائهم عنه. ومَن يتصفح الصحف والمجلات أو يجول في مواقع الانترنت يجد ذكراً طيباً كثيراً عن أيام "الزمن الجميل". وأود أن أبدأ مقالي بتعريف ما يُقصَد بـ "الزمن الجميل"

"الزمن الجميل" هو - بدون مبالغة - أزهى وأرقى عصر عرفته مصر والمصريين في كل العصور العديدة التي توالت على مصر بعد عصرها الفرعوني العظيم. يبدأ ازدهار عصر "الزمن الجميل" "تدريجياً" من بداية القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين. وهي الفترة من بدء تولّي محمد علي باشا الألبانيّ الأصل "مؤسس الدولة المدنية المصرية" حكم مصر في عام 1805، صعوداً حتى قمة نضوحها وازدهارها في عام 1952. ويمكن القول أن "الزمن الجميل" امتدت معالمه، قبل الضمور والذبول التام، لأواخر الستينات من القرن العشرين.

وبما أن هدف هذا المقال ليس التحدث عن "الزمن الجميل" بصفة عامة، بل كما هو واضح من عنوانه هو تقدير الإسلام في عصر "الزمن الجميل"، فيجب أن نقر معاً أن مصر في الثلاثة عشر قرنا الأولى من الحكم الإسلامي لها لم تحظَ بذَرَّاتٍ تقدم او شذرات ارتقاء أو حتى لمحات من النمو الداخلي. حتى بدت براعم "الزمن الجميل" تدريجياً حتى أينع وازدهر في جميع المجالات الحيوية والحياتية بل والشخصية، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً وفنياً وأدبياً وتعليمياً وأخلاقياً... ودينيــاً.

نعم، دينيـــاً.. لمن يملكه العجب!!!  فقد كانت مصر في ذاك الزمن في أرقى ثوب للإسلام الأبيض المتنور المتفتح الكريم السمِح الحنيف. ومن أنصع محاسن ذاك العصر أنه حظي بنخبة بل بكنز من العظماء والعباقرة المسلمين (دون ذكر المسيحيين) الذين ساهموا في ازدهاره في كل مجالات وحنايا الحياة. منهم رفاعي الطهطاوي وعلي مبارك ومحمد عبده وسعد زغلول ومصطفى كامل ومحمد فريد وطلعت حرب وقاسم أمين ومحمود سامي البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وعبد القادر المازني واسماعيل صبري وعباس العقاد ومصطفى لطفي المنفلوطي ومصطفى النحاس وطه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ واحسان عبد القدوس وعلي محمود طه وعلى الجارم وبيرم التونسي وأحمد رامي وسيد درويش ومحمد عبد الوهاب ورياض السنباطي وأم كلثوم ويوسف وهبي ومحمود مختار وغيرهم كثيرين نجوم سَمَوا في سماء "عصرٍ واحدٍ" وأكرر "عصر واحد" لم تر مصر بل الشرق الاسلامي العربي بأجمعه مثلهم في الثلاثة عشر قرون السوابق. كما لم ترَ مصر ولا الشرق العربي مثلهم بعد ذاك العصر حُكماً بما رأيناه وعشناه من الفُكاهيات المُبكيات في خمسة عقود تقريباً (بدءاً من سبعينات القرن العشرين حتى 2013) حيث لم تبدُ بارقة لتحرر أو ارتقاء أو ازدهار، بل اضمحلال وانحدار ودمار وانهيار في كل نواحي وحنايا الحياة.

وأقف هنا وقفة قصيرة لأبدي تفاءلي اليقيني بعودة ذاك "الزمن الجميل" أو مثيلاً له، حيث نستنشق اليوم نسائم تشبه نسائمه، ونرى أمام أعيننا بوادر ومعالم واعده تكاد أن تكون ملموسة، شكراً لله، وشكراً لمن أنقذ مصر من أمواج عاصفة شيطانية سوداء وغرق كاد أن يكون مؤكدا.

هناك الكثير من معالم هذا العصر يستحق الذكر والتقدير يصعب حصره في مقال واحد (هنا الجزء الأول). معالم خيِّـرة طيِّبـة غمرت مصر ومواطنيها من كل شكل ولون وعرق وجنس ودين. كل مواطن عاش خلال ذلك العصر تزخر ذاكرته بأطنان من الذكريات الإنسانية الجميلة. أذكر هنا بعض ما مَسَّـني شخصياً أسردها بفخر كمواطن مصري عاصر ذاك الزمن الجميل وسبح في بحره وسمائه. ولدى غيري ممن عاصروه ما يماثلها ويفوقها من ذكريات. هذه مرآة حق صادقة تكرم الاسلام والمسلمين. وشتان بين ذاك العصر والستة عقود التي تلته.

أبدأ بأني قضيت السنين الأولى من طفولتي بإحدى القرى الكبيرة مساحة وتعداداً بمحافظة البحيرة في السنين الأولى من ثلاثينات القرن العشرين. وكان والدي أكبر أخوته التسعة يعيشون، كلهم في منزل واحد رحب كبير تتقدمه حديقة كبيرة وسور وبوابة. كان البعض من العشرة إخوة وأخوات بزوجاتهم وأبنائهم والبعض لم يكن قد تزوج بعد. ظلَّ لقب هذا البيت "بيت العيلة" مدى حياتنا.

نشأنا، أنا وأخوتي وأبناء عمومتي وكنت أكبرهم سناً، بين أعمامي وعماتي وأولاد عمومتهم ونسايبهم وأصدقائهم من رجال وسيدات البلد مسلمين ومسيحيين. ولم تكن أهالينا تفرق بين أخ أو ابن عم أو نسيب أو قريب أو صديق من أي دين، بل كان الكل اخوة لبعضهم البعض. كلهم، مسلمون ومسيحيون كانوا يأكلون ويشربون ويتسامرون في بيوت بعضهم البعض، ويتشاركون الأفراح والأحزان في إخاء ومودة. ورثنا عنهم المحبة فكان جميع هؤلاء، أقرباء أو أصدقاء، أعمام وعمّات لنا، وأولادهم اخوتنا بلا تفريق أو تمييز.

كان الجيران والأصدقاء المسلمات يشاركن والدتي وعماتي وزوجات أعمامي في عمل الكعك والحلويات في الأعياد المسيحية، كما كانت والدتي وعمّاتي وزوجات أعمامي يساعدونهن بالمِثل في الأعياد الاسلامية. لم يكن هناك عنصرياً متطرفاً يفتي بان هذا حلال أو ذاك حرام.

أذكر أنه بعد انتقال والدي وأسرتنا الصغيرة إلى مدينة كفر الزيات أن أصِبت في حادث بسيط في منتصف السنة الثانية ابتدائي ألزمني الفراش لفترة وترتب على ذلك خوف والدي أن تفوتني السنة الدراسية فأخسر العام الدراسي وأتأخر سنة دراسية عن أقراني. ولكن الشيخ أحمد حجازي أستاذ اللغة العربية بالمدرسة اقترح أن يساعدني هو وأخيه سعد أفندي حجازي الموظف بمكتب البريد بتدريسي بالمنزل ما قد يفوتني من مقررات مدرسية في فترة نقاهتي. وتقدم بعدها الشيخ أحمد حجازي لناظر المدرسة بطلب امتحان خاص لي لطول تغيبي عن المدرسة حتى يُسمح لي بالعودة إلى المدرسة مع أقراني. وفعلاً تمت استجابة طلب الشيخ أحمد حجازي. ومن الجدير بالذكر أنه رفض هو وأخوه تقاضي أي مكافأة مالية على مجهودهما الذي كاد أن يكون يومياً لعدة أسابيع.

أذكر أنه عندما توفي أحد أعمامي ذهبنا، والدتي وأنا وأخوتي، مع والدي إلى البلد لتأدية الواجب في معزى ودفن أخيه. وإذ بالعديد من العائلات المسلمة بالقرية تحضر صواني كبيرة محملة بالطعام المطبوخ إلى بيت المتوفي لإطعام الضيوف سواء المحليين أو القادمين من سفر. وأذكر استضافة بعض الأسر المسلمة لبعض الضيوف الرجال القادمين من سفر للمبيت بمنازلهم، تاركين منزل المتوفي لمبيت السيدات فقط. جدير بالذكر أن الحال كان كذلك تماماً في الاحتفال بزواج أحد أعمامي. لم يكن هناك "متأسلم" متطرف حقود يفتي بعدم مشاركة غير المسلمين التهنئة أو التعزية. لم يكن يخطر ذلك الفكر العنصري البغيض ببال مسلم حينئذ.

أذكر في فترة الدراسة بمدرسة دمنهور الثانوية أن ناظر المدرسة، وكان اسمه كامل رستم، رجلاً طويلا جهماً ومعروف عنه الشدة في حفظ النظام بالمدرسة. كنا نجتمع نحن الطلبة في حوش المدرسة كل صباح قبل أن نتجه إلى فصولنا الدراسية، بينما هو يقف على أعلى درجات السلم العريض الطويل المؤدي للطابق الثاني وبيده اليمنى عصا خزرانية طويلة وبيده اليسرى بوق يعطي به تعليماته الصباحية. ولا أنسي أبداً صوته الجهوري الرهيب يدَوّي في أذني حتى اليوم وهو يقول أكثر من مرة على مدار السنة قولته المأثورة "أنا إلـه المدرسة" ولم يكن هناك متأسلم في ذلك العصر ليكفره!

أذكر أيضاً أنه في آخر سنين الثانوية (التوجيهية) أنّي وثلاثة أصدقاء من زملائي تسربنا من الفصل وخرجنا أو بالأصح هربنا من المدرسة قافزين فوق السور الخلفي قبل نهاية الحصة الأخيرة يوم الخميس استعجالا لنهاية الأسبوع. فلما جاء صباح يوم السبت التالي أعطى الناظر، كامل رستم، تعليماته للطلبة بحوش المدرسة كالمعتاد، وعند صرفهم للتوجه للفصول نادى في (بوقِهِ) الشهير أسماءنا نحن الأربعة للتخلف عن باقي الطلبة ثم التوجه إلى مكتبه فوراً. ذهبنا وبنا من الرعب من العقاب المتوقع ما يكفي مدينة تحت غارة جوية. وفي مكتبه فوجئنا بقوله "أنا لن أعاقبكم على ما فعلتم فأنتم على وشك أن تكونوا رجالا، وسأسمح لكم بالاستمرار في الدراسة بشرط أن يُحضِر كل منكم وَليَّ أمره لمقابلتي قبل نهاية الأسبوع، وإلا سأقرر إيقافه عن الدراسة أسبوعين، ولكم أن تدركوا نتيجة ذلك."

في اليوم التالي استصحب زملائي الثلاثة آباءَهم لمقابلة الناظر حيث قام كل أب بتأنيب و"بستفة" أبنه أمام الناظر استجابة لطلبه. كان والدي في مأمورية عمل خارج المدينة فاقترحت والدتي أن تذهب معي لمقابلة الناظر، وأبَت كبريائي أن أزج بها في ذاك الأمر. بعد ثلاثة أيام وأنا بعيد عن المدرسة عن المدرسة أدرك أحد أصدقائي واسمه محمد حمزة خطورة الأمر فأخبر والده الذي وافقني في تجنيب والدتي هذا الموقف، وتطوع لاستصحابي لمقابلة الناظر حيث شرح له ظروفي وقام "ببستفتي" أمامه مثل زملائي السابقين. لم يكن اختلاف الأديان عقبة في طريق واجب المروءة بين مسلم وغير مسلم.
أذكر في فترة الدراسة الجامعية أن دعاني صديق في ساعة متأخرة ذات ليلة للحضور فوراً إلى منزله. وهناك قضينا الليلة بطولها، أنا وهو ووالده، حيث قمنا بالتنقيب في كل أركان المنزل لجمع وفحص وتمزيق وحرق العديد من الأوراق والخطابات والمستندات والكتب والمجلات والنشرات التابعة لأخيه الأكبر والتي كانت تثبت أنه عضواً نشيطاً بجماعة "الأخوان المسلمين" خوفاً من بطش جمال عبد الناصر. قمت بذلك العمل وحافظت على سِرّ صديقي وأخيه وأسرته، رغم معرفتي بمبادئ ونوايا ومخططات الأخوان المسلمين تجاه الأقباط. كانت مودتي واخلاصي لصديقي وأسرته أكبر من حقدي على الأخوان المسلمين.

ذلك بعض من معالم الإسلام الجميل.. في مِرآة الزمن الجميل.
وإلى لقاء آخر في جزء تالي.
مهندس عزمي إبراهيم