القمص يوحنا نصيف
    "كنتُ أعمى والآن أبصر" (يو25:9).
    هذه هي العبارة الشهيرة التي قالها المولود أعمى في حواره مع الفرّيسيين، عندما حاولوا أن يجادلوه مؤكِّدين أنّ الذي شفاه هو إنسان خاطئ، فكان ردّ المولود أعمى عليهم قاطعًا بهذه العبارة: "أخاطئ هو؟ لست أعلم. إنّما أعلم شيئًا واحدًا: أنِّي كنتُ أعمى والآن أبصر"..!

    حالة المولود أعمى تُعَبِّر بصدق عن حالة الإنسان المولود بالجسد، قبل أن يلتقي بالمسيح، ويولَد منه ميلادًا روحيًّا جديدًا.. كما وضّح السيِّد المسيح: "المولود من الجسد جسدٌ هو والمولود من الروح هو روح" (يو6:3)..

    فالإنسان بعد حادثة سقوط آدم وحوّاء أصبح يولَد أعمى بالروح، لا يُدرِك الأمور المُختصّة بالله.. "الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأن عنده جهالة، ولا يقدر أن يعرفه" (1كو14:2). ولكن بتجسُّد المسيح وفدائه الذي قدّمه على الصليب، صار في متناوَل أيّ إنسان أن يَقبَل الربّ يسوع فاديًا ومُخَلِّصًا، ويؤمن به، ويدخل معه في عهدٍ بالمعموديّة، فيولَد ثانيةً من الماء والروح، ويُغرَس في جسد المسيح، فينال نعمة التبنّي، وتُخلَق فيه عيون روحيّة جديدة تستطيع أن ترى الله بالروح.

    وأيضًا عندما يَسكُن الروح القدس في الإنسان بالنعمة عن طريق سِرّ الميرون.. يستطيع الإنسان أن يقول بصِدق: "بنورك ياربّ نعاين النور" "كنتُ أعمى والآن أُبصِر".. إذ أنّ روح الله الذي فيه يبدأ بالتدريج في كشف الأسرار الإلهيّة له..!

    هذا ما عَبَّر عنه الإنجيل على فم معلِّمنا بولس الرسول عندما قال: "ونحن لم نأخُذ روح العالم بل الروح الذي من الله، لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله" (1كو12:2)..

    ومع التغذية الروحيّة المستمرّة، بصلاة المزامير، ودراسة الكتاب المقدّس، وممارسة الأسرار الكنسيّة، ينمو الإنسان بالروح، فتستنير بصيرته الروحيّة أكثر فأكثر.. فيفهم تدبيرات الله، وتنكشف أمامه أسرار الكلمة الإلهيّة، وتصير حواسّه مُدرّبة للتمييز بين الخير والشرّ.. وتصير حياته أكثر تناغُمًا وانسجامًا مع الروح القدس الساكن فيه، لدرجة أنّ المحيطين به يلاحظون بوضوح كيف أنّه يتحرّك دائمًا بإرشاد الروح له، فتتحقّق فيه عبارة الإنجيل: "الذين ينقادون بروح الله، أولئك هم أبناء الله" (رو14:8).

    أمّا إذا أهمل الإنسان في الاهتمام بالعيون الروحيّة المخلوقة في داخله بالمعموديّة، فترك المناظر الشّريرة تلوِّثها، وحُبّ المظاهر يُغطِّيها، ولم يعتنِ بتنقيتها باستمرار من الشوائب التي تَعْلَق بها، عن طريق محاسبة النفس والتوبة.. ولم يهتمّ بتغذيتها دائمًا بالنور الإلهي الذي يسطع عليها في الصلاة وقراءة الإنجيل والتلمذة الروحيّة.. تكون النتيجة أنّ هذه العيون الروحيّة الثمينة تتوقّف عن العمل، ويتخبّط الإنسان في الظلام، ويعود لِما يُشبِه حالة العَمَى الروحي التي وُلِدَ بها..!

    ولكن مع كلّ ذلك، إن انتبه الإنسان لحالته البائسة وانتفض تائبًا، لافظًا الخطيّة، مُرتَميًا في أحضان الله، طالبًا المعونة منه في الصلاة بكلّ قلبه.. وابتدأ مرّة أخرى في العودة لممارسة الأسرار والتغذِّي بالكلمة الإلهيّة، تعُود له تدريجيًّا بصيرته الروحيّة مرّة أخرى، فيهتف بفرحٍ عظيم أيضًا: "كنتُ أعمى والآن أبصر"..!

    لعلّنا الآن قد فهمنا لماذا تُسَمِّي الكنيسة سِرّ المعموديّة "سر الاستنارة".. إذ فيه تُخلَق لنا العيون الروحيّة الجديدة.. مع إنساننا الجديد الذي نناله في المعموديّة، ذلك الإنسان "المخلوق بحسب الله في البِرّ وقداسة الحقّ" (أف24:4).

    يتبقَّى لنا أن نلاحظ أنّه من المهم أن نقوم بعمليّة "كشف نظر روحي" بانتظام عند أب اعترافنا، طبيبنا الروحي.. وبهذا نعتني بحالة أعيننا الروحيّة باستمرار، فنحفظها مِن أيّ تلوُّث، حتّى تظلّ مستنيرة وقويّة، تقود خطواتنا في طريق الحياة الأبديّة..!
القمص يوحنا نصيف