كتب - محرر الاقباط متحدون
استرجع  القمص يوحنا نصيف، راعي الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، في ولاية شيكاغو بالولايات المُتحدة الأمريكية، ذكرياته مع الشماس المكرس الدكتور نصحي عبد الشهيد أستاذ علم الآباء ، الذي انتقل عن عمر ناهز ٩١ عامًا، وكتب نصيف عبر حسابه الخاص على فيسبوك :

ذكريات مع أستاذنا الجليل، الدكتور نصحي عبد الشهيد بمناسبة نياحة أستاذنا الجليل، والأب الروحي للكثيرين في هذا الجيل، الدكتور نصحي عبد الشهيد، والذي غادر عالمنا الفاني إلى الأخدار السمائيّة عن عمرٍ تجاوز التسعين عامًا.. يسعدني أن أسجّل بعض الذكريات عنه ومعه، في ثلاث حلقات متتاليّة.

  كنت أسمع اسم الدكتور نصحي وأقرأ بعض الكتب الصادرة عن "بيت التكريس لخدمة الكرازة"، منذ السبعينيّات من القرن الماضي.. لكنّي تعرّفت بشكل شخصي عليه في أواخر الثمانينيّات عن الطريق الخادم الجميل النشيط والغيور المهندس مجدي أنيس حبشي، متّعه الله بكامل الصحّة.. إذ كان المهندس مجدي قد أنشأ اجتماعًا روحيًّا في مساء كلّ أربعاء بكنيسة مارجرجس سبورتنج، منذ منتصف الثمانينيّات، كان يحضره عدد قليل من الشعب والخُدّام، وكان يَدعي إليه الدكتور نصحي عبد الشهيد من القاهرة ليلقي كلمة روحيّة، مرّة كلّ شهر بشكل منتظم.. وقد واظب الدكتور نصحي على الخدمة في هذا الاجتماع لسنوات طويلة..

  في كلّ مرّة بعد انتهاء الاجتماع، كُنّا نذهب معًا إلى منزل المهندس مجدي بكليوباترا حمّامات، ونجلس جلسة روحيّة إضافيّة مع الدكتور نصحي، نتناقش في موضوعات روحيّة، مع شرح مفصّل لبعض معاني آيات الإنجيل، ونختم الجلسة في وقت متأخِّر بالصلاة.. وأتذكّر أنّي عندما لاحظت عمق دراسة الدكتور نصحي لمعاني الآيات، وأسلوبه الجميل الواضح في الشرح، سألته ذات مرّة عن معني كلمة "مفتدين الوقت" (أف5: 16)، فأجابني بأنّ المقصود هو إنقاذ الوقت من الضياع، وسررتُ بهذه الإجابة.

    كان هذا الاجتماع يتكرّر كلّ شهر، في منزل المهندس مجدي أنيس، وكنت أشعر بفائدة كبيرة إذ أقترب من هؤلاء العمالقة، وأتعلّم منهم..

    في مايو من عام 1991م، ذهبتُ لأوّل مرّة مع صديقي الحبيب الدكتور محبّ وديع (بالكويت حاليًا)، لحضور محاضرة المطران جورج خضر، بمركز دراسات الآباء بالقاهرة (محطّة المحكمة بمصر الجديدة).. وكان المكان لا يزال تحت التشطيب.. وكان الدكتور نصحي عبد الشهيد يدعو المطران الجليل -متّعه الله بالصحّة- كلّ عام ليمكث في مصر أسبوعًا، يتخلّله إلقاء محاضرة يوم الإثنين بمركز دراسات الآباء.. وكان الدكتور نصحي يقوم بتقديمه، وإدارة الحوار والأسئلة بعد المحاضرة..

   هذا المركز هو أحد فروع مؤسّسة القديس أنطونيوس التي أسّسها الدكتور نصحي في عام 1979م، وقد بدأ بدون مكان لفترة، وكان اسمه "مركز دراسات الآباء بالقاهرة"، قبل أن يتمّ تعديل الاسم قرب نهاية التسعينيّات إلى "المركز الأُرثوذكسي للدراسات الآبائيّة بالقاهرة".. بعد نموّ الخدمة فيه، عن طريق الباحثين الذين أرسلهم الدكتور نصحي للدراسة باليونان، وعادوا بعد سنواتٍ طويلة حاصلين على درجة الدكتوراه، مثل الدكتور جوزيف موريس فلتس، والدياكون مجدي وهبة (المتنيّح القس صموئيل وهبه)، والمتنيّح الدكتور جورج عوض، والدكتور سعيد حكيم وكيل الكلّيّة الإكليريكيّة للدراسات العليا حاليًا، وآخرون..

  الفترة من بداية 1991م إلى قرب نهاية عام 1996م، اقتربت فيها كثيرًا من الدكتور نصحي، فكنتُ أحضر معه لقاءات سنويّة للتكريس البتولي بالقاهرة، وفيها تعرّفت على مجموعة مباركة من الخدّام والخادمات من القاهرة، ومن المحلّة الكبرى، ومن بني سويف، ومن بلاد أخرى في الصعيد.. وكانت خلوات دسمة جدًّا في الدراسة والترنيم والصلاة، وتستغرق عدّة أيّام..

  كنت أيضًا أحضر بعض محاضرات مركز دراسات الآباء، وبالذّات عندما يحضر المطران جورج خضر.. وكنت أحيانًا أمكث بالقاهرة طوال الفترة التي يقضيها المطران جورج هناك، لأرافقه وأتعلّم منه.. وكنتُ أتنقّل معه ومع الدكتور نصحي بسيّارته الفولكس البسيطة القديمة في بعض الزيارات..

  كما كنتُ أحضر المؤتمرات السنويّة للدراسات الآبائيّة، التي كان الدكتور نصحي يرتّبها، ويحضرها أعداد كبيرة من الخدّام والخادمات من كلّ مكان.. وأتذكّر أنّي حضرت المؤتمر الذي عُقِد في دير السيّدة العذراء ببياض ببني سويف عام 1994م، وكان عن "عظات القدّيس مكاريوس الخمسين" التي ترجمها الدكتور نصحي من الإنجليزيّة.. وفي هذا المؤتمر تعرّفت عن قرب على الدكتور جوزيف موريس فلتس، وعلى الأستاذ ناجي إسحق حنين (المتنيّح الأب أثناسيوس حنين)..

   كان الدكتور نصحي مرجعًا لي في الكثير من الأمور الكنسيّة والمعاني الإنجيليّة، فكانت دائمًا معلوماته غزيرة ونقيّة، ومسنودة بفكر الآباء.. ولم يكُن يتكلّم أبدًا في سياسة الكنيسة، ولا يعلّق على السلبيّات، بل يهتمّ فقط بكلّ ما هو للسلام وما هو للبنيان (رو14: 19).. وأتذكّر أنّه حدّثني عن تأثّره بتعليم الأستاذ يسّى عبد المسيح، أمين مكتبة المتحف القبطي (1898-1959م)، والذي كان يُدَرِّس أيضًا بالكليّة الإكليريكيّة، وقت أن التحق بقسمها المسائي الدكتور نصحي. وحدّثني أيضًا عن تأثُّره بروحانيّة وعمق القمّص متّى المسكين، بالذّات في الفترة التي تمّ فيها تأسيس بيت التكريس بحلوان عام 1958م.

  في عام 1995م، ذهبتُ معه في رحلةٍ إلى لبنان وسوريا، استغرقت 12 يومًا.. سأتكلّم عن بعض تفاصيل هذه الرحلة، مع العديد من ملامح شخصيّته وخدمته، في الحلقتين الثانية والثالثة من هذه السلسلة، بنعمة المسيح.

دمتم في سلام الله،،

(يُتَّبَع)

القمص يوحنا نصيف

* الصورتان أثناء رحلة لبنان في يوليو عام 1995م.