فاروق عطية
   كانت الأسباب المعلنة لحركة ضبلط 23 يوليو 1952م كما أعلنها أعوانهم على الملأ: بعد حرب 1948م وضياع فلسطين وفضيحة الاسلحة الفاسدة ظهر تنظيم الضباط الاحرار في الجيش المصري بزعامة البكباشي جمال عبد الناصر وقيادة اللواء محمد نجيب، وفي الثالث والعشرين من يوليو 1952م قام التنظيم بانقلاب مسلح نجح في السيطرة على الامور في البلاد والسيطرة على المرافق الحيوية في البلاد، وفرض الجيش على الملك التنازل عن العرش لولي عهده الامير احمد فؤاد ومغادرة البلاد في 26 يوليو، وشكل مجلس وصاية على العرش ولكن ادارة الامور كانت في يد مجلس قيادة الثورة المشكل من 13 ضابط كانوا هم قيادة تنظيم الضباط الاحرار ثم اُلغيت الملكية وأُعلنت الجمهورية في 1953م.
 
   وذريعة الأسلحة الفاسدة التي روج لها الكاتب احسان عبد القدوس في احدى رواياته وتشبث بها التنظيم، وقُتلت بحثا قبل الحركة وبعدها ولم يثبت صحتها. ما قاله التاريخ عن قضية الأسلحة الفاسدة فى حرب فلسطين عام 1948م، يثبت أن الأسلحة التى حارب بها الجيش المصرى لم تكن "فاسدة"، ولكنها من بقايا الحرب العالمية الثانية، استعان بها الجيش نتيجة تكاتف المعسكر الغربى، ورفضه تصدير الأسلحة للدول التى تحارب إسرائيل، ومنها مصر بالطبع، وحتى الأسلحة التى تم استيرادها، لم تستخدم فى ميدان القتال على الإطلاق، فكان الأمر برمته ما هو إلا عدم استعداد كاف للحرب. هذا ما أكده المؤرخ العسكرى أحمد حمروش أحد رفاق جمال عبد الناصر فى كتاب "النكبة وحقيقة نصف الدولة" حيث قال: إن بريطانيا كانت مورّد السلاح الوحيد للجيش المصرى، وكونها مدينة بنحو 400 مليون إسترلينى، ومن ثم قامت بتقديم أسلحة (متخلّفة) للجيش المصرى على أن يخصم ثمنها من تلك الديون، ولذلك فلم تكن الأسلحة فاسدة ولكن متخلفة لا تستطيع الصمود فى حرب كحرب فلسطين".
   وأرى أن السبب الحقيقي لحركة الضباط تكمن في عاملين: أولهما أن شباب الضباط كانوا من أسر فقيرة معدمة استطاعوا الالتحاق بالكليات العسكرية بوساطة الباشوات التي كان أولياء أمورهم يعملون كخدم لديهم فأحسوا بالدونية بين أقرانهم الضباط أبناء الطبقة الارستقراطية تمشيا مع المثل الشعبي (يكفيك شر الجربوع لما يشبع بعد جوع). وثانيهما تغلغل الفكر الاخواني بين شباب الضباط وتأييد الإخوان لهم بقلب نظام الحكم حتي يحققوا حلمهم بعودة الخلافة وتطبيق الشريعة الإسلامية.
    جاء حريق القاهرة في 26 يناير 1952م، حيث أحرق مجهولون مدينة القاهرة، مما أدى إلى استقالة وزارة الوفد ذات الشعبية الجماهيرية الجارفة، ثم قيام مجموعة الضباط الانقلابيين الذين أطلقوا على أنفسهم الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر بقلب نظام الحكم وإبعاد الملك فاروق خارج البلاد (بعد الحدث بستة شهور) في 23 يوليو من العام نفسه. كانت بعض الإشاعات وجهت أصابع الاتهام إلى جماعة الإخوان المسلمين، وربما حركة الضباط أيضا بتدبير الحريق. وكان تسلسل الأحداث كالتالي:
   في مساء 8 أكتوبر 1951م، أعلن مصطفى النحاس باشا، رئيس الوزراء، إلغاء معاهدة 1936م بين مصر وبريطانيا، ووضعت حكومته قرارها موضع التنفيذ، فألغت جميع الإعفاءات التي كانت ممنوحة للسلطات العسكرية البريطانية، كما شجعت حكومة الوفد الحركات الشعبية في تنظيم المقاومة ضد القوات البريطانية الموجودة بمنطقة القناة.
   وفي 25 يناير 1951م، كانت عمليات المجموعات الفدائية ضد القوات البريطانية قد ازدادت، فقامت القوات البريطانية بمحاصرة قسم البوليس الموجود بمدينة الإسماعيلية، وطلبت من قوات البوليس تسليم سلاحهم والانسحاب من المنطقة إلى مدينة القاهرة. لكن وزير الداخلية المصري - فؤاد سراج الدين باشا- أصدر أوامره بعدم قبول الإنذار والمقاومة حتى آخر طلقة، فقاوم رجال البوليس هجمات الجيش البريطاني، وسقط منهم خمسون قتيلا وما يزيد على سبعين جريحا.
   عندما شاع خبر هذه المعركة في القاهرة عمت الشعب المصري كله موجة من الغضب، وفي الساعة السادسة من صباح 26 يناير قام جنود بلوكات نظام الأقاليم بتمرد في ثكناتهم بمنطقة العباسية، وامتنعوا عن القيام بمهامهم الخاصة بحفظ النظام. وعند الظهر تجمعت مظاهرات طلاب المدارس الثانوية في ميدان الأوبرا بوسط القاهرة، قبل التوجه إلى جامعة القاهرة، للاحتجاج على ما جرى بالإسماعيلية. سارت مظاهرة الطلاب في درب الجماميز وشارع محمد علي، حتى وصلت إلى ميدان العتبة ثم ميدان الأوبرا. عندئذ فوجنوا ببعض الرجال في الثلاثينات من العمر، جاءوا بسيارة نقل مفتوحة أخرجوا منها صفائح من البنزين أفرغوه في مبنى كازينو بديعة وأشعلوا فيه النيران. وسرعان ما انتقلوا بسياراتهم إلى الجانب الآخر من الميدان، حيث أشعلوا النيران في فندق شبرد. بعد ذلك انفضت المظاهرة وسادت الفوضى، وانضم الغوغاء إلى المسيرة، وصاروا يحطمون واجهات المحلات العامة، ويسرقون ما بها. وفي ذلك اليوم المشؤوم التهمت النيران الكثير من الأماكن العامة في وسط القاهرة، من فنادق وسينمات ومحلات تجارية ومكاتب.
   أسفر الحريق عن مقتل 26 شخصًا وبلغ عدد المصابين بالحروق والكسور 552 شخصًا، كما أدى إلى تشريد عدة آلاف من العاملين في المُنشآت التي احترقت، وليلتها اجتمع مجلس الوزراء وقرر مواجهة الموقف بإعلان الأحكام العرفية في جميع أنحاء البلاد ووقف الدراسة في المدارس والجامعات إلى أجل غير مسمى. وتم تعيين مصطفى النحاس باشا حاكمًا عسكريًا عامًا.
   أجمعت المصادر الرسمية وشهود العيان على أن الحادث كان مدبرًا وأن المجموعات التي قامت بتنفيذه كانت على مستوى عالٍ من التدريب والمهارة، وعلى معرفة جيدة بأسرع الوسائل لإشعال الحرائق، وأنهم كانوا على درجة عالية من الدقة والسرعة في تنفيذ العمليات التي كُلِّفوا بها، كما كانوا يحملون معهم أدوات لفتح الأبواب المغلقة ومواقد الأستيلين لصهر الحواجز الصلبة على النوافذ والأبواب، وقد استخدموا نحو 30 سيارة لتنفيذ عملياتهم في وقت قياسي، كما أن اختيار التوقيت يعدّ دليلاً آخر على مدى دقة التنظيم والتخطيط لتلك العمليات، فقد اختارت هذه العناصر بعد ظهر يوم السبت حيث تكون المكاتب والمحلات الكبرى مغلقة بمناسبة عطلة نهاية الأسبوع، وتكون دور السينما مغلقة بعد الحفلة الصباحية.
   تم الحريق بشكل احترافي، وبأسلوب واحد تقريبا في مختلف المواقع. وبالطبع أصحاب المصلحة عديدون، على رأسهم الأخوان المسلمون وحركة الضباط لقلب نطام الحكم أو كليهما معا.
   كانت تلك لحظة نادرة في التاريخ المصري منذ ثورة 1919م، تحدّت فيها الحكومة الوفدية سلطات الاحتلال البريطاني، وقامت بإلغاء معاهدة 1936م، وحاولت إجبار بريطانيا على قبول إجلاء قواتها الموجودة في مصر. فجاء حريق القاهرة ليضع نهاية لكل هذا، حيث أعلنت الأحكام العرفية وأقيلت الحكومة، وبعد بضعة أشهر قامت حركة الضباط بقلب نظام الحكم في 23 يوليو. ولنا أن نتساءل: من هو المستفيد من حريق القاهرة الذي أدي لسقوط حكومة الوفد وإفشال مشروعها القومي ؟
   كان الضباط الانقلابيون قد حددوا موعدا لانقلابهم علي أن يكون في عام 1955م (بعد ثلاث سنوات)، لكنهم بعد الحريق قدموا الموعد، وجعلوه بعد ستة أشهر فقط. لماذا فقد الضباط صبرهم وقرروا الإسراع بقلب النظام قبل موعده بثلاث سنوات؟ هل كان لتنظيم الضباط الإنقلابيون علاقة بحريق القاهرة؟ هل أدرك عبد الناصر أن نجاح الحكومة الوفدية في تحقيق الجلاء سوف يضيع عليه فرصة الانقلاب على النظام؟ ومن الملاحظ أن أنصار إنقلاب يوليو هم أول من صار ينفي وجود فاعل في جريمة حرق القاهرة، وظلّوا ينسبونها إلى المظاهرات والغوغاء. فقد اعتبر حسنين هيكل (الذي كان مقربا من جمال عبد الناصر) الفاعل في هذه الجريمة مجهولا. وفي برنامج «مع هيكل» في قناة الجزيرة، الذي أذيع في 12 يناير 2006م، قال هيكل: «أنا لغاية هذه اللحظة لا أعتقد أن عملية حريق القاهرة بدأت بتدبير مقصود». لماذا يصر هيكل على إنكار وجود فاعل لجريمة حريق القاهرة؟!
   تحدّث صلاح شادي - الذي كان عضوا في جماعة الإخوان المسلمين وصديقا لجمال عبد الناصر ومحل سره - عن حالة الاضطراب التي كان فيها عبد الناصر أثناء حريق القاهرة، وخوفه من مداهمة رجال البوليس لمواقعه. ذكر صلاح أن جمال اتصل به تليفونيا ظهر 26 يناير، في الوقت ذاته الذي بدأت فيه الحرائق تشتعل في ميدان الأوبرا، وطلب منه الذهاب للقائه في منزله. وعندما وصل صلاح إلى منزل جمال، وجده في حالة من الاضطراب لم يعهدها فيه من قبل. وطلب منه جمال نقل بعض الأسلحة والذخائر التي كان يخفيها لخوفه من أن تداهم الشرطة مواقعه بسبب حريق القاهرة، وتعثر على الأسلحة المخبأة (الموقع الإلكتروني «إخوان أون لاين»، بتاريخ 14 أغسطس 2008م).
   في لقاء مع اللواء جمال حماد، الذي كان أحد كبار الضباط الأحرار، أذاعته قناة «الجزيرة» في 17 نوفمبر 2008م، قال له أحمد منصور: «هناك علامات استفهام كثيرة طالما ذكرت جمال عبد الناصر، حول دور أو علاقة لجمال عبد الناصر في حريق القاهرة». وسأله منصور عن العلاقة بين حريق القاهرة وقرار الضباط الأحرار بالإسراع في تنفيذ خطة الانقلاب الذي كانوا يعدون له، فرد جمال حماد قائلا: «يوم 26 يناير ده، يعني (هو) اللي أيقظنا انه لازم نعجّل بالثورة. كان أول تحديد ان الثورة تقوم في 1955م، (لكن) بعد حريق القاهرة، بعدين، حددناه في 1952م.
   من ذلك نري أن الإخوان المسلمين يحاولون تحميل الضباط المنقلبون مسؤولية حريق القاهرة، ويحاول الضباط المنقلبون تحميلها لهم أيضا، لكن الحقيقة التي لا يمكن انكارها أن كليهما متورط في هذا الأمر ويحاول كل منهما التملص (إذا اختلف اللصان ظهر المسروق).