عاطف بشاي
«لغة الآى آى» قصة قصيرة بديعة للعبقرى «يوسف إدريس» حولتها لمشروع تخرج فى فيلم روائى قصير كتبت له السيناريو والحوار وأخرجته.. وحصلت بموجبه على المركز الأول بتقدير جيد جداً مع مرتبة الشرف بالمعهد العالى للسينما (1976)، واختاره المذيع «شفيع شلبى» لعرضه ومناقشته مع «يوسف إدريس» ومعى فى برنامجه عن سينما الشباب المميزة.. جاء بقامته المديدة وأناقته المعهودة وخطواته الطاووسية.. فارتعدت فرائصى.. وخفت من رد فعله السلبى.. وحدة هجومه.. وظللت أنظر إليه فى وجل وترقب.. وأقرض أظافرى فى توتر عنيف أثناء عرض الفيلم.. فأنا أجلس إلى جوار أديب فذ هو أمير القصة ورائدها.. وأنت إذا قلت إنه خرج من عباءة «تشيكوف» فإنك تجافى الحقيقة وأولى بك أن تدرك أنه بموهبته الطاغية تجاوز «تشيكوف».

لكن المبدع الكبير أثنى علىّ ثناء لم يخطر على بالى.. وأبدى شدة إعجابه بالفيلم.. وقال لى إنى أفضل من جسد عملاً فنياً مأخوذاً عن قصة له.. وبروح ودودة أصر بعد انصرافنا على دعوتى على العشاء فى «كافيه ورستوران» «ريش» العريق، والذى كان يقيم فيه «نجيب محفوظ» ندوته الأسبوعية.

■ ■ ■

قال لى الدكتور «يوسف»: فى هذا المقهى التاريخى سوف تتعرف على عالم مدهش من الكبار والصغار.. العظام والصعاليك.. قادة الرأى ومفكرى العصر.. عقول الأمة والمثقفين الحقيقيين.. وأنصافهم وأرباعهم.. الأدباء الموهوبين والشعراء الفحول.. والرسامين المرهفين والنقاد العتاولة والمزيفين.. الطبالين الأفاقين.. والانتهازيين والأدعياء.. الثوار والخونة.. العمالقة والأقزام.. متمردى العصر وكهنة التحريم.. الأتقياء والملاحدة.. ويمكنك أن تستلهم من أنماطهم ملامح الكثير من الشخصيات الدرامية.

■ ■ ■

أردت أن أشاغبه فقلت له إنه سبق وصرح بأن «فاتن حمامة» من ممثلات العطف.. قاصداً أن الشخصية التى ظهرت بها ولاقت نجاحاً ساحقاً هى شخصية المرأة الضعيفة المنسحقة التى تعيش فى كنف ظروف قاهرة أقوى منها ومن إرادتها الهشة غير القادرة على المقاومة.. والأقدار هى التى تضغط عليها وتظلمها وتحدد لها مسارها فى الحياة كما فى التراجيديا اليونانية القديمة.. وكل ما تفعله حينئذ أن تتألم أمام المتفرجين لتجسد مأساتها.. تظل طوال الفيلم كالعجينة التى تنغرس فيها الأحداث.. وتسحقها.. لذلك فهى مريضة أو يتيمة أو بائسة.. إنها تتعذب كفقراء الهنود على مسامير كتاب السيناريو.

وضحكت قائلاً وأنا أفصح عن هدفى فى المشاغبة أن المفارقة فى تصريحك هذا أن شخصية «عزيزة» التى جسدتها فاتن حمامة فى فيلم «الحرام» المأخوذ عن روايتك تتشابه مع أدوارها الأخرى بصفتها ضحية الحرمان وانعدام العدالة الاجتماعية التى أوقعتها فى براثن الحرام.. لا حول لها ولا قوة فى فقرها الذى فرض عليها حتى إن زوجها المريض العاطل عن العمل طلب منها أن تأتى له بالبطاطا التى اشتهاها.. فذهبت تحفر فى أرض مالكها، فأتى ابنه وأخرج لها بعض حباتها.. ولكنها وقعت فى الحفرة فوقع فوقها ومارس معها الجنس فحملت.. وبعد وضع المولود فى القرية الغريبة كانت صرخاتها الموجعة «جذر البطاطا هو السبب يا ضنايا».

استنكر ما أقوله.. وقال إنه فى رسمه لشخصية «عزيزة» المقهورة فى «الحرام» يختلف الأسلوب والتناول عن شخصيتها فى الأفلام الأخرى.. لم تكن صرخة تبرير أو دفاع عن النفس فى مواجهة خطر داهم يوصمها المجتمع من خلاله بالعار والعهر والفضيحة، ولكنه كان تجسيداً بالغ التأثير والدلالة للقهر والشقاء والظلم الاجتماعى الذى يشمل كل الغرابوة.. كل الفقراء.. و«الغرابوة» هم شريحة اجتماعية بائسة تنتمى إليهم «عزيزة» يأتون إلى القرى لتنقية الدودة.. إن صرخة «جذر البطاطا» تبدو وكأنها صرخة احتجاج وإرهاصات ثورة.

صحت بحماس وإعجاب: صدقت يا أستاذ إن دلالات هذه الصرخة الثائرة.. تمثل القيمة الكبيرة للفيلم الذى جعلت منه فيلماً عظيماً تجاوز حدود المأساة الشخصية.

إن «الحرام» فى الرواية - وبالتالى الفيلم - ليس هو حرام «عزيزة» التى تم الاعتداء على شرفها فى مقابل كوز بطاطا، إنما حرام قرية بأكملها مارست كل شخصيتها كل أنواع الموبقات والخطايا فى الخفاء وظهروا فى العلن أطهاراً كالملائكة.. أى أن الازدواجية فى السلوك هى التى تعتبر عنواناً عريضاً للحرام فى تلك الرواية وفى معظم قصصك القصيرة، مثل «بيت من لحم» و«العيب» و«حادثة شرف».

والجميع ينتهزون الفرصة - وكأنهم ينتظرونها - ليسقطوا حرامهم على «عزيزة».. وبقسوة بادية ليلقوا من على كاهلهم ذلك العبء النفسى الذى يجللهم ويوصمهم بالتغافل والتعايش مع الحرام المسكوت عنه.. وغض الطرف خوفاً من الفضيحة والإحساس بالمسؤولية طالما ظل فى الخفاء لا يعلم أحد شيئا عنه لذلك أصبح حلالاً.. أما عزيزة وجنينها المخنوق فليس عندها ما يخفى حرامها.. لا سلطة ولا مال ولا جاه.. ولا نفوذ.. حرام «عزيزة» مكشوف أمام الناس، فهو حرام أكيد.. وكأن الشىء الحرام إذا وافق عليه الجميع يصبح حلالاً ذلالاً لا شك فيه.

Atef.beshay@windowslive.com
نقلا عن المصرى اليوم