بقلم: الدكتور أحمد عبد الظاهر

«الأنسَنَة» لفظ متداول في الأوساط الثقافية الأكاديمية منذ فترة ليست بالطويلة، ولاسيما في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، ويُرادُ به النزعَة الإنسانية.

والأنسنَة لفظٌ اشتُقَّ من الإنسان، وبُنيَ على بناء الفعلَلَة، وهو بناء مصدري يُراد به تحويل قضية ما إلى قضية إنسانية، ويُستخدم لفظ «الأنسنة» للتعبير عن نزعةٌ فلسفية أخلاقية تُركّزُ على قيمة الإنسان وكفاءَته، والتأكيد على ضرورة احترام الكرامة الإنسانية في التصرفات والإجراءات كافة.
 
أمّا «الإنسانوية» فهي لفظٌ مبني بناءً مصدريا صناعياً وزيدَت عليْه «الواو» كما زيدَت في الأصل اللاتيني، للتعبير عن ادّعاء الشيء، أي ادعاء النزعة الإنسانية. ويرى البعض أنّ «الأنسنَة» تثيرُ لَبساً، مؤكداً أنها لفظ غير مشهور وغير متداوَل بكثرة، مفضلاً استخدام تعبير «النزعة الإنسانية» بدلاً منه، اللهم إلاّ إذا أريد به تحويل قضية ما إلى قضية إنسانية فهذا مقبول.
 
ووفقاً للرأي ذاته، فإن «الإنسانوية» لفظ مركب تركيباً غريباً من حرف مقحم هو «الواو»، والأفضل منه التعبير عن المعنى بما يُفيد ادّعاءَ الإنسانية (راجع: منتدى مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية، الفتوى رقم 527، معنى مصطلح الأنسنة وقضية الفصل والوصل في «بين» و «ما»).
 
وكما سبق أن قلنا، فإن «الأنسنة» اتجاه عام يؤكد على ضرورة احترام الكرامة الإنسانية في التصرفات والإجراءات كافة. وهكذا، بدأ الحديث في عالم اليوم عن «أنسنة المدن» و«أنسنة الإعلام» و«أنسنة التاريخ» و«أنسنة التكنولوجيا» و«أنسنة التقنية» و«أنسنة التاريخ» و«أنسنة التراث العمراني» و«أنسنة الشعر» و«أنسنة الخطاب الديني» و«أنسنة الحرف» و«أنسة البيانات» و«أنسنة النص» و«أنسنة السياسة» و«أنسنة التعليم» بوجه عام و«أنسنة التعليم عن بعد» بوجه خاص. بل إن البعض قد تحدث عن «أنسنة المجتمع» ككل و«أنسنة الإنسان» ذاته و«أنسنة العالم» في مجموعه.
 
وترتيباً على «أنسنة السياسة»، ولما كان القانون هو أداة تنفيذ السياسات العامة للدولة، كان من الطبيعي أن يتحدث البعض عن «أنسنة القانون»، مطالباً بإضفاء نزعة إنسانية على أحكام القانون كافة. وفي اعتقادنا أن الأساس الفلسفي الذي يقوم عليه الحديث عن أنسنة القانون يكمن في مبدأ احترام الكرامة الإنسانية منظوراً إليه باعتباره المعين الذي تقوم عليه الحقوق والحريات كافة.
 
وقد ورد النص على «الكرامة الإنسانية» في الدستور المصري ست مرات، مرتان منها في ديباجة الدستور، وأربع مرات في صلب الدستور ذاته، وتحديداً في المواد الحادية والخمسين والخامسة والخمسين والسادسة والخمسين والثامنة والسبعين.
 
وتقرر المادة الحادية والخمسون الأصل العام القاضي بأن «الكرامة حق لكل إنسان، ولا يجوز المساس بها، وتلتزم الدولة باحترامها وحمايتها». أما المادة الخامسة والخمسون، فتنص على أن «كل من يقبض عليه أو يحبس أو تقيد حريته تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامته، …».
 
وبدورها، تنص المادة السادسة والخمسون من الدستور على أن «السجن دار إصلاح وتأهيل. تخضع السجون وأماكن الاحتجاز للإشراف القضائي، ويحظر فيها كل ما ينافي كرامة الإنسان، أو يعرض صحته للخطر….».
 
وتنص المادة الثامنة والسبعون الفقرة الأولى على أن «تكفل الدولة للمواطنين الحق في السكن الملائم والآمن والصحي، بما يحفظ الكرامة الإنسانية وتحقيق العدالة الاجتماعية».
 
ولا يقتصر الأمر على أنسنة الأحكام القانونية، وإنما تمتد الأنسنة إلى أنسنة المصطلحات القانونية. وللتدليل على ذلك، نرى من الملائم أن نشير إلى أحدث مثال في هذا الشأن. إذ يتبنى الرئيس الأمريكي الجديد «جو بايدن» مواقف أقل حدة وأكثر تسامحاً مع المهاجرين، خلافاً لسلفه «دونالد ترامب» الذي اتخذ عدداً من القرارات المتشددة تجاه المهاجرين إلى أمريكا.
 
ولم تقتصر النزعة الإنسانية للرئيس الأمريكي في هذا الشأن على إلغاء الأمر التنفيذي الذي أصدره دونالد ترامب بمنع رعايا بعض الدول العربية والإسلامية من الهجرة إلى أمريكا، وإنما تعدى الأمر في هذا الشأن إلى الإعلان عن الاتجاه إلى حذف كلمة (alien) من قوانين الهجرة، وأن يستبدل بها لفظ (Noncitizen) إذ يسعى «بايدن» إلى تغيير كلمة (alien)، والتي تعني «الغريب» أو «الأجنبي» أو «الكائن الفضائي» أو كل شخص ليس مواطناً أمريكياً، على أن تستخدم بدلا منها كلمة (Noncitize)، والتي تعني غير المواطن، ويعني التغيير للكلمة مزيد من الاعتراف بأن الولايات المتحدة الأمريكية دولة تتسع لجميع المهاجرين، باعتبارها بالأساس دولة مهاجرين.
 
بيان ذلك أن كلمة (alien) تفرض تقليلا من الموصوف بها، وتعني كذلك أن المهاجر هو شخص يتواجد بشكل غير شرعي وغير قانوني.
 
ووفقاً للعديد من مراقبي حقوق المهاجرين، فإن تلك الكلمة كانت تفرض نوعاً من المعاملات التي تعتبر الموصوف بأنه (alien) كأنه دون الآخرين أو أقل منهم، كما يتم التعامل معه بنظرة أقل من غيره من البشر.
 
وتجدر الإشارة إلى أن (alien) هي الكلمة التي استخدمها «دونالد ترامب» بشكل دائم، للحديث عن المهاجرين غير الشرعيين أو عمليات الهجرة التي لا تخضع لمراقبة، وكانت كلمة شائعة في خطاباته في هذا الملف، رغم أن بعض رموز إداراته كانوا يرفضون استخدامها، كما أن كثير من الجهات القضائية استخدمت الكلمة ذاتها.
 
وفي عام 2017م، وفي السنة الأولى من ولايته الرئاسية، اتخذت إدارة الرئيس الأمريكي السابق «دونالد ترامب» قراراً غريباً بتخصيص خطاً ساخناً للإبلاغ عن الجرائم التي يرتكبها الغرباء، والذين يمكن اتخاذ قرار بإبعادهم إلى خارج البلاد، في إشارة صريحة واستهداف مباشر للمهاجرين غير الشرعيين. ولم تلق مسألة تخصيص خطا ساخنا بهذا المسمى قبولا من الأمريكيين، إذا تحول مسمى الخط الساخن «الغرباء» إلى مادة للتهكم والسخرية من الإدارة الأمريكية، وقدموا عبر مواقع التواصل الاجتماعي بلاغات لكن عن أجسام غريبة من الفضاء.
 
وفي المقابل، حظرت بعض الولايات الأمريكية استخدام هذه الكلمة. ومن بين الولايات الأمريكية التي حظرت كلمة (alien)، نذكر ولاية كاليفورنيا، وكان ذلك في عام 2015م، حيث لم تعد الكلمة مستخدمة على الإطلاق في قوانين الولاية. وفي سنة 2019م، كانت ولاية نيويورك أكثر دقة وحذراً حيث حظرت استخدام الكلمة حالة كان الهدف منها توجيه أذى نفسي للشخص أو إذلاله أو إهانته، بل إنها فرضت غرامات قد تصل إلى مائتين وخمسين ألف دولار أمريكي لمن يخالف هذا الحظر.
 
 نقلا عن نقابة المحامين