سحر الجعارة
(ما نرضاش، قلبى جوا يغنى والأجراس تدق لصرخة ميلاد.. تموت حتة منى الأجراس بتعلن نهاية بشر من العباد.. دى الحكمة قتلتنى وحيّتنى وخلتنى أغوص فى قلب السر.. قلب الكون قبل الطوفان ما ييجى وخلّتنى أخاف عليك يا مصر.. وأحكيلك على المكنون).. وكأنه هو نفسه «السر»، سر الأسمر النحيل القادم من «النوبة» بعنفوان «النيل» وتدفقه.. بحِيرة «العاشق» وحزنه الدفين.. بصمت «الحكيم» وأسئلته الحائرة.. بأحلام «رحالة» يغنى على الربابة حكاية «المصرى».

هكذا كان يجلس «محمد منير» متأملاً خلال حفل تكريم أحد الأصدقاء، وأنا إلى جواره والكاتب الصحفى «محمود موسى»، بعد سنوات طويلة من الصداقة، وهو نفس «الطفل - العجوز» يتأمل الوجوه بفراسة ويعلق بسخرية.. يطرح الأسئلة المحرمة ويشرح البشر.. وكانت هذه آخر مرة ألتقى به.. تباعدت بيننا المسافات، فقط صرت أسمع أخباره من الصديق محمود الكردوسى، رئيس مجلس إدارة «الوطن».

فى تلك الليلة تردد اسم يعقبه لقب «أيقونة الثورة»، وبعد تعقيب صادم على اللقب، قلت له: ألست «أيقونة العشق».. ببساطته المعهودة وغروره الدفين قال: أنا «المغنى».

1 - (اتكلمى): «ليه تسكتى زمن؟ اتكلمى.. ليه تدفعى وحدك التمن؟ اتكلمى.. وتنامى ليه تحت الليالى؟ اتكلمى.. المشربيات عيونك بتحكى ع اللى خانوكى.. واللى سنين همّلوكى.. جوّة البيبان سلسلوكى.. وليه تسكتى زمن؟ اتكلمى».. من لا يؤمن بأن هذه الكلمات -على بساطتها- قد تحطم أغلال شابة وتغير مسار تاريخها، فهو لم يسمع «منير»، أحد شروط المحبة أن تكون «مذبوحاً من الألم».. أن تتوه بين زحام البشر ومفارق الطرق، حتى يأتى صوت منير ساحراً كـ«النداهة» ليرشدك.

«منير» جزء من تاريخى السرى، حين غنى «اتكلمى» تغيرت حياتى، وحين تهشمت ضلوعى من «الفقد» أهدانى البهجة: (قدمت شكوتى لحاكم الخرطوم، أجّل جلستى لما القيامة تقوم)!.

2 - (حدوتة مصرية): شكّل «منير» وعى جيل بأكمله عشقوا بنبرة صوته: (حب لآخر حتة فى قلبك روق، ما تخبيش شوقك ولا حبك دوق، سيب إحساسك ياخدك ليا، اهجر ناسك واسكن فيّا).. وتمردوا معه وفكوا قيودهم: (علّى صوتك بالغنا لسه الأغانى ممكنة).. حين هزمهم الاغتراب حول قلبه «مساكن شعبية».. إنه أغنيتنا الضائعة بين الحكمة والجنون.. النسر الجارح الذى يرفعنا من قاع الإحباط إلى سماوات العشق.

3 - (العشق هو الحل): حين رفعوا شعار «الإسلام هو الحل».. غنى بجسارة وبقلب صوفى يعاند الموت ولا يهابه: (مدد يا رسول الله.. أقسمت بالإسراء وبراءة العذراء الدم كله سواء حرامٌ بأمر الله.. أنشودة المسيح رسالة حرة على الأرض السلام وبالناس المسرة).. وحين تعقدت حياتنا كملحمة إغريقية طرح سؤالاً ثائراً، (أنا كنت فين لما شبتى، أنا هونت لما انتى هونتى، من تانى أديكى اتولدتى).. وعلى إيقاع صوته سالت على إيقاعه دماء الشهداء فى 25 يناير: (مش لاقى فى عشقك دافع.. ولا صدق فى حبك شافع.. إزاى أنا رافع راسك وانتى بتحنى فى راسى.. إزاى؟).

3 - (هذا الصوت): صوت بنكهة «نعناع الجنينة».. وتنهيدة الوجع (أنا عايش فى سجن جراح.. والعالم قصادى براح.. وبغنى عن الأفراح.. وحغنى لو إيه حصل لى).. «صوت الصمت» حين يكون أكثر بلاغة من كل لغات العالم: (عايش ما بين الحزن وبينى بعاد مكتوب.. لكن لا جرح قدر يقتلنى ولا يشيّلنى ذنوب).. إنه «نَجِى» يحلق بك لتطارد حلمك (وده حب إيه ده اللى من غير حرية).. إنه «مليون كمانجة» بيعزفوا لحن البهجة: (ترقص؟ أرقص، غصب عنى أرقص.. غصب عنى غصب عنى أرقص.. ينشبك حلمك فى حلمى غصب عنى أرقص.. غصب عنى غصب عنى أرقص).

4- (منير.. مهموم): (كل اللى حييجى فى بال إنسان ليكوا عملته.. قلبى المحنى بحمل الأشواق ثقلت شيلته.. بتحبونى ولا ده كيفكوا تتحدونى.. اللى ما بينّا بقى بالنسبة لى ما هوش مفهوم).. يتألم «منير» -وحده- يتنقل ما بين نغمة وآهة (يالى انت جمبى انت فين)، ويصر على أن يكمل «الحدوتة» بصوته وأن يختمها ببصمته.. ألا يكون إلا «لغة عشق».. وأن يحترق عشقاً بفنه، بتراب وطنه، برابطة عشاقه.

يصر على أن يُنهك قلبه (أنا عاشق فعلاً مش كذاب)، لم يطلب حتى أن ترحمه الكاميرات على سرير المرض.. وكأنه يسدد فاتورة نجوميته -راضياً- من عمره (مش قادر أعيش وخلاص.. ألمى غير آلام الناس.. ألبس قصة الإحساس.. وأنا عارف إنه البطل)، وعاماً بعد عام تتجدد الأحلام التى تبدأ بـ«المريلة الكحلى».. وتغرق فى أحاسيس متناقضة لكنها تنتصر دائماً للمغنى.. وحده الغناء يضيف إلى عمره أعمار من مسهم جنون العشق «من أول لمسة».. ومن نجا من «الطوفان».

«منير»: «لو باقى فى عمرى شوية وقت.. أحب أشوفك آخر حد».
نقلا عن الوطن