خيوط من نسيج صماء مشدودة أوتارها، لا تُغري إلا من أحب هذا الفن، يغزل منها "محمود" مشاهد من الأمل، يتشبث بوميض ضوء نفذ إلى صدره صباح يوم ما، في لحظة أحالت ظلام يأسه وقلة حيلته إلى نهار لا تفتر فيه عزيمته.
 
رغم صعوبة حركته، اتخذ "محمود" قرارا قاطعا بالعمل في مهنة كادت أن تندثر، حفظت قدماه طريق مُحرك آلة "النول"، يضغط عليه بكل ما أوتي من قوة، إيذانا بالبدء في تشكيل ملامح سجاد يدوي ممتزجة ألوانه بعناية، شاب أحب ما يعمل فأبهر الناظرين إليه، وصفقت له أيدي ذوي الخبرة، والتفت النساء من حوله يستفدن من حرفته.
 
ولد بشلل دماغي أصاب عضلات يده وقدمه بضمور 
شلل دماغي ولد به الشاب البالغ من العمر 20 عاما، أصاب يداه وقدماه بارتعاشة لا تتوقف ولا علاج لها، لم يسلم منها لسانه الذي يتلعثم هو الآخر حين يبدأ بالحديث، أنامل يده المرتعشة تكاد أن تتعافى حين يُمسك بطرف خيط اختار لونه بنفسه، يضع بدايته على أوتار من خيوط القطن المشدود على "نول" خشبي، فينطلق في نسج سجادة تستغرق من وقته ساعات طوال من يومه.
 
"مرة واحد قالي متستناش الوظيفة تجيلك وشوف شغلانة لنفسك"، كلمات بدأ بها "محمود إسلام" حديثه مع "الوطن"، كاشفا حكاية نصيحة وجهها له أحد الأشخاص في أحد الليالي الظلماء، غيرت مسار حياته، بعد أن كان فاقدًا للأمل.
 
قبل عامين انتهى، ابن مركز أوسيم بمحافظة الجيزة، من دراسته للنسيج خلال مرحلة الثانوية الصناعية، أحب المجال رغم صعوبة قدرته على "لضم" الإبرة في بداية الأمر، ما المانع في أن يحترف مهنة النسيج رغم ظروف إعاقته؟ هكذا ناجى "محمود" نفسه كثيرا حتى حملته قدماه إلى مكان التقديم للحصول على دبلوم في التنمية الصناعية، يؤهله لفتح مشروع خاص به: "خلال وقت قليل أوي حبيت السجاد اليدوي، واتمكنت من الشغل على النول بسهولة".
 
تعليم سيدات على "النول" لصناعة السجاد اليدوي
يمضي الشباب بغتة، لا مزيد من الوقت لديه لإضاعته في انتظار وظيفة ربما لا تأتي لظروفه الصحية الخاصة، انخرط بحثا عن المشاغل المختصة في صناعة السجاد والكليم اليدوي في نطاق مسكنه، حتى جمعه القدر بـ"سعيدة محمود" مشرفة جمعية الرائدات الريفيات بالجيزة، رأته حين مرة منهكما في نسج خيوط "النول" فانبهرت بحرفته، "عرضت عليه يجي يدرب الستات في مشغل الجمعية على النول عشان ننتج سجاد يدوي"، فما كان منه إلا أن وافق على عرضها غير مكترثًا لطول المسافة التي تبعد "أوسيم" مكان بيته، عن "بشتيل" حيث تقع الجمعية.
 
آلة النول شغفته حبًا، اعتاد "محمود" صوتها كما يعتاد الساكن جنب البحر صوت الأمواج، رغم إعاقته المزدوجة في قدميه ويديه لم يعد تحريك مقبضها أمرًا يستعصى عليه، تلتف السيدات داخل المشغل من حوله، يشرح إليهن كيف يغزلن خيوطه معًا ليخرج من تحت أيديهن سجاد يدوي ملون متين، منه الصغير والكبير بأسعار تناسب الجميع.
 
اجتاز دورات تدريبية في الحاسب الآلي ويعمل مدخل بيانات 
نغوص في أعماق الموجة فتحملنا إلى قرار بعيد، مجبرين على التعايش مع واقع لا مفر منه، الغزل على أوتار النول ليست الحرفة الوحيدة التي امتهنها الشاب العشريني، إذ اجتاز دورات في برامج الحاسب الآلي حتى أجاد التعامل مع التكنولوجيا، وبات مؤهلا للعمل كمدخل بيانات في مواقع العمل المختلفة، تسكن ارتعاشة يداه قليلا كلما انهمك في عمل يتمه أمام شاشة الكمبيوتر: "اتعلمت برامج المايكروسوفت أوفيس، وبشتغل في المكتبات أكتب ورق وأدخل بيانات جنب شغلي في السجاد اليدوي".
 
عزيمة "محمود" ليست فقط في السعي وراء الوظيفة، اهتمت أسرته بتحسين حالته الصحية بالرياضة إلى جانب جلسات العلاج الطبيعي، أحرز تقدما ملحوظا في رياضة الوثب: "اتولدت ومكنتش بقوم من السرير، بالرياضة والعلاج قدرت أقوي نفسي، ودخلت مسابقات في الوثب وفزت فيها".
 
أحلامه لم تقف عند تلك العتبة، يطمح "محمود" في وظيفة ثابتة، ومزيد من الدمج له ولذوي الهمم كافة: "نفسي ناخد فرصتنا في الدمج في التعليم أكتر".