د.ماجد عزت إسرائيل 

   ولد البابا غبريال الثامن البطريرك رقم 97 (1587 - 1603م) فى قرية مير التابعة لمحافظة أسيوط ،وكان اسمه العلماني شنودة وترهب بذات الاسم بدير الأنبا بيشوي ببرية شيهت بوادي النطرون. وبعد أن ظل كرسي مدينة الإسكندرية المرقسي شاغراً نحو ما يقرب من تسعة أشهر أجتمع الأساقفة وتشاوروا مع الأراخنة ومن نِعَم الله أن اتفقت كلمتهم، فأجمعوا على انتخاب الراهب  شنودة الانبا بيشوي".وتم رسامته بطريركاً باسم البابا غبريال الثامن في يوم الأحد(16 بؤونة 1303ش/ 20 يونية 1587م) بكنيسة القديس مرقوريوس بمصر(العتيقة) القديمة. وكان ذلك اليوم تذكار الملاك غبريال.
 
وتشير بعض المخطوطات المعاصرة لفترة حبريته كان المتقدم في تكريسه أو رسامته الأنبا زخارياس أسقف مدينة القدس، وأنبا كيرلس الخيامي،وقد حدث خلاف بين الأقباط - غير معروف كُنْهه - أدَّى إلى سَعْي بعضهم لدى الوالي من أجل عَزْل البابا غبريال الثامن؛ فوافق على ذلك، وعَزَلَه. ولكن بعد فترة من الزمن عاد البابا غبريال إلى كرسيه مرة ثانية في أيام السلطان مراد الثالث. وقد أقام البابا غبريال الثامن بالدار البطريركية ومقرها كنيسة العذراء بحارة زويلة.ولكن في أواخر حياته قام بزيارة أديرة ببرية شيهيت، فأدركته المنيَّة أثناء وجوده في دير السيدة العذراء المعروف بالسريان في يوم(9 بشنس 1319ش/ 14 مايو 1603م). فقام الآباء الرهبان بتجنيزه ودفنه بإكرام في كنيسة الدير، وكان ذلك في أيام السلطان العثماني أحمد الثاني. وقد أقام على الكرسي 15 سنة، و10 شهور، و24 يوماً.
 
  ومن الجدير بالذكر أن الشواهد التاريخية المصاحبة للمتنيح البابا غبريال الثامن تشير إلى أنه وافق على الاتحاد مع كنيسة روما، وبدأ ذلك بمحاولة لضبط الأصوام – إلى حد ما – وأيضًا تطبيق التقويم الغريغوري، حيث أصدر البابا في عام ( 1318ش/1602م) أمر بتعديل الأصوام في الكنيسة القبطية على أن يكون صوم الرسل من يوم عيد العذراء 21 بؤونة وفصحه في اليوم الخامس من أبيب. وأن يكون صوم السيدة العذراء الذي يحل في شهر مسري اختيارياً.
 
أن يبتدئ صوم الميلاد من أول شهر كيهك ويكون فصحه يوم عيد الميلاد. وأن لا تُصام ثلاثة أيام نينوى.
 
  وحدثت في حبرية البابا غبريال الثامن اضطرابات عديدة بين العسكر والولاة بمصر.حيث  قام الشعب المصري بالتمرد على السلطة العثمانية المتمثلة في الوالي وجنده وحدثت مسيرات وأشتباكات بين الناس والجند بسبب الضرائب. ربما كانت هذه الأحداث بسب تطبيق نظام الالتزام -  الالتزام! فهو نظام أساسه تعهد شخص ما –أو عدة أشخاص- بدفع الضريبة المقررة على مقاطعة قرية أو عدة مقاطعات قرى وأحيانا جزء من مقاطعة حيث وصل عدد الملتزمين في بعض المقاطعات إلى أكثر من خمسين ملتزما.ويحصل بعد ذلك على تقسيط بعد أن يرسو عليه أو عليهم المزاد من خلال مقابل القيام بهذا العمل يحصل على فائض- وهو الفرق بين ما يجمعه من الفلاحين وما يدفعه للروزنامة- كما يحصل على مساحة من الأرض معفاه من الضريبة تسمى الأوسية التي تختلف مساحتها من قرية إلى أخرى. وقد ذكر بعض المؤرخين أن نظام الالتزام ظهر عام(1069 ه/1658م) وكانت مدة الالتزام في الأساس لسنه واحده، واشترط على الملتزم عدم تحصيل أكثر من النسبة المعينه- وقد انتشر أيضاً وباء الطاعون، وزاد القحط في المزروعات، وقامت ثورات عديدة.
 
ومما يُذكر أن عادة ”التدخين“ دخلت إلى مصر لأول مرة في هذا العصر، ولم تكن معروفة في البلاد المصرية من قبل.
 
  وهنا يجب أن نتحدث عن أوضاع الأقباط في مصر في ظل الاحتلال العثماني أو أحفاد أردُوغان، حيث طبَّقت الجِزْية في أوائل القرن السادس عشر الميلادي. وقد أخذت السلطات المحتلة في التطبيق بالتفسير الحنفي القائل بتطبيق الجزية إنْ فُتِحَت بلدة عنوة أي بالقوة. فعندما وصل الصدر الأعظم إبراهيم باشا إلى مصر عام 1525م ، جعل ”ضريبة الجوالي“ وهي اسم ”الجزية“ على المسيحيين واليهود، ووضع نظاماً يُتَّبع في إيراد وإنفاق أموال الجزية. وخلال القرن السابع عشر أصبحت الجزية تُحصَّل بواسطة أمراء مصر في البلاد والمحافظات، وذلك بعد أن كانت السلطات الكنسية القبطية هي التي تقوم بعملية الجباية، كما ورد في إحدى وثائق المحكمة الشرعية قديماً ما يفيد أن البطريرك القبطي ”يؤانس الرابع“ البطريرك رقم 96 (1571-1586م) كان مُلزَماً بجزية ”النصارى“ الأقباط. وكان هذا النظام يقضي بإجراء مسح سنوي شامل لجميع ”الذّميين“ (أي الأقباط واليهود) ويتم تقسيمهم إلى ثلاثة فئات- عني، ومتوسط، وفقير - وكان يُعطَى لكل مَن يسدِّد الجزية تذكرة من الورق الملوَّن عليها ختم رئيسهم واسم الشخص الذي سدَّد ومكان إقامته وسنُّه وتاريخ التحصيل، وكان على كل واحد حَمْل تلك الورقة بصفة دائمة ليُقدِّمها إلى رجال الالتزام وكأنها إيصال بالسداد أو صك حماية للواحد. وكان هناك تلاعب كبير من جانب القائمين على تحصيل الجزية من الذّميين. ففي عام 1742م حدث تناقص في عدد الذميين، مما جعل السلطان العثماني يُصدر أوامره بزيادة الضريبة المفروضة على كل فئة من الفئات الثلاث وكان القائمين على تحصيل الجزية من  الأمراء المماليك، لذلك كان على الأقباط واليهود المُموِّلين، تبعاً لتلك السياسة المالية الغاشمة، أن يتحمَّلوا هم تلك الزيادات السنوية التي كانت تزداد سنة بعد أخرى. وهذا كان بطبيعة الحال يُمثِّل عبئاً باهظاً، وأحد العوامل الرئيسية في زيادة ضيقهم وبؤسهم. لدرجة وصلت أن البابا غبريال الثامن أرسل رسل لبابا روما إكليمنضس الثامن يطلب المساعدة المالية حيث كتب قائلاً:."..نشكر السيد المسيح له المجد دايما على كل شىء وان علينا بالنواحي كلف ومصاريف ومغارم وعوايد على الديارة والبيع المقدسة والمساكين...".
 
 وقد أفاضت بعض المصادر التاريخية في الحديث عمَّا كان المصريون ”الذّميون“ يُعانونه منه من ضيق بسبب أداء ضريبة الجوالي (الجزية)، وما كان يُصاحب عملية الجباية من أساليب العنف والقسوة والبطش من جانب الجُباة والعسكر، مما دفع البعض منهم إلى الهرب والاختفاء في الجبال، فضلاً عما ذاقه فقراء المصريين من مرارة ومهانة كانت تصل إلى حدِّ الحبس لغير القادرين على الدفع، بل وحَجْز أولادهم للخدمة في البيوت. وفي العادة كان يقوم أراخنة الأقباط وأثرياؤهم بسداد الجوالي ويُخلِّصونهم. وقد قام بعض أولئك الأراخنة الأقباط بإحداث وَقْفٍ يُخصَّص لسداد المُقرر على الأقباط المحبوسين غير القادرين على الدفع بسبب الجوالي، أُطلق عليه: ”وقف حَبْس الجوالي“. 
 
    كما  قام أحفاد أردُوغان، بإلغاء الإعفاء من الجزية الممنوح للرهبان: وتُشير الوثائق الرسمية والمصادر التاريخية القبطية على أنَّ الرهبان استمروا يتمتَّعون بالإعفاء من الجزية حتى عام 1734م، حينما تقرَّر أن يصبح الرهبان من دافعي الجزية شأنهم في ذلك شأن جميع الفئات الذّمية وذلك خروجاً على التقاليد السابقة. كما فرض على أقباط مصر ما يعرف بالمغارم والالتزامات المالية وهي التي تفرضت لتغطية نفقات الحملات العسكرية نذكر على سبيل المثال وليس الحصر في عهد السلطان سليمان القانوني وبالتحديد عام 1566م  عندما احتاج السلطان في تركيا إلى مبالغ من المال لنفقات سفر الجيش العثماني بقيادة سنان باشا لفتح بلاد اليمن. فأصدر السلطان أوامره أن يجمع ذلك المبلغ من أقباط مصر، وكذلك على جميع الآخرين من التُّجَّار اليهود والإفرنج، مبلغ 2000 دينار.كما إلزام البطريرك بدفع غرامة كرسم إقامته بطريركاً. ومن أجل سداد كل هذه الأموال ربما لَجَأ البابا غبريال الثامن لطلب المساعدة من البابا الروماني  طبقاً لرواية جاك تاجر التي دونها في كتابه "أقباط ومسلمون" حيث ذكر قائلاً:".. فاننا في غاية الضيق والشدة.وما تحتاحة كنائسنا وأديرتنا والفقراء والمساكين والأرامل والأيتام والذين بالسجون والحديد والذين بالسجون والحديد لسبب الجوالي وغيرهم...". وقد أرسل البابا إكليمنضس الثامن مشكوراً بعض المساعدات للكنيسة القبطية. 
 
   وأخيراً،يصف لنا الرحَّالة الدومنيكاني يوهان ميشيل فانسليب(1635-1679م)  واقعة اضطهاد الأقباط في حي الأزبكية في شهر سبتمبر من سنة 1672م، وذلك بقصد إجبارهم على دفع غرامة مالية لسلطات الحاكم. فيذكر هذا المؤرِّخ أن الأقباط قاسوا اضطهاداً عظيماً، لأن بعض الجنود العثمانيين قاموا بذبح امرأة خليعة وألقوا جثتها بعيداً عند بِرْكة الأزبكية. فقام والي القاهرة - ظلماً وعدواناً - بغلق كل بيوت الأقباط المتاخمة لتلك المنطقة، وأجبرهم على دفع غرامة مالية قدرها 2000 قرش فِدْية لهذا الدم المهدور، إذا أرادوا أن يفتحوا بيوتهم مرة أخرى ويسعوا إلى العيش فيها. وأيضًا سجل في مذكراته" رحلة جديدة في الديارة المصرية" الخراب التام الذي حل على برية شيهيت في تلك الفترة.