فيفان سمير
صوت أوراق الشجر الجافة، التي تسحقها خطواتي المتعثرة، يتردد بصدري كصوت روحي الصارخة تحت أقدام أيامى الثقيلة، صراع تلقفني بين أذرع لا تلين، منذ صرختي الأولى بعد أن ملأ الهواء صدري حين لفظني رحم أمي التي لا أذكر منها سوى رائحتها التي تسكنني حتى بعد أن غابت عنى لأكثر من ثلاثين عاما.

لا أعرف كيف افترقنا، كيف تخلت عنى ولم تحارب لاستعادتي، كيف تركتني أجف وأذبل وتتقاذفنى الأقدار وحيدا، لكنى أذكر جيدا تلك السيدة التي احتضنتني بقوة حتى أنغرس كياني الصغير بين أضلعها، أذكر دقات قلبها التي هدأت روحي المضطربة، المتخبطة بين جدران الحيرة واليأس، رغم ضيق حالها وتواضعه إلى حد الاحتياج إلا أنها أعطتني بسخاء حبا لا حدود له، أفرغت في كل طاقة الأمومة المحرومة، وكل طاقة الزوجة المهجورة لعجز لا حيلة لها فيه، مع ذلك بقيت غريبا عنها لا أشابهها وحياتي معها لا تشابهني.

ذكاء حاد وتفوق مذهل خطف قلوب وأنظار أساتذتي، ربما همومي، التي عجزت عن التعبير عنها في ذلك الوقت، أضافت لعمرى الصغير عمرا جعل منى صديقا لهم وأشبع داخلي احتياجا للانتماء، فوجدتني أعتز بإحساسي أنى واحدا من هؤلاء الذين يخضع لهم زملائي ويهابونهم، حرصت أن أكون كاملا حتى أحتفظ بذلك الامتياز الذى لا أملك سواه، مع ذلك لم يرفق بي ذلك القدر الأحمق، تحت وطأة العوز والاحتياج وكما يفعل من يعيشون على هامش المجتمع، في المناسبات التي تخفف قليلا من عنائهم، طرقت بابا لينعم على ساكنيه بعطية الشهر الكريم وخجلي يكاد يقتلني، وكأن إحساسي بالخجل لم يكن كافيا، حتى يخرج على أحد أساتذتي، لم أكن أعرف أنه صاحب البيت الذى أقف ببابه سائلا، فيهوى قلبي تحت أقدامي الصغيرة وتتسمر نظرتي الخرساء بعينيه المتفاجئة، أردت أن أبكى أن أصرخ أن اغتسل بطوفان دموعي المتحجرة، أن أنكر أنه أنا، أن أخلع ذاتي والقى بها بعيدا عنى، أن أسقط عارى وأعود كاملا، الجمتنى قلة حيلتي، هربت كل حروف أبجديتي، واحتبست داخل أسوار عجزي، لم يبقى سوى أن تحملني رياح القهر بعيدا بأسرع من البرق، كأني أهرب من أنياب الغدر التي لا تكف عن نهش برعم طفولتي الذي لم يتفتح بعد.

عاندت اليأس وبسطت جناح أحلامي لأخره، فواصلت تفوقي وتخرجت من كلية الصيدلة، اشتغلت، سافرت وكونت ثروة متواضعة تغنيني وأمي بالتبني عن الاحتياج، لكنني وقفت بحافة الدنيا أخشى أن أدخلها فلم يتخلى عنى ذلك الإحساس بالنقص، مازال يرهبني يخيفني وأخشى وجهه القبيح، إلى أن قابلتها.

رقيقة كطيف حالم، حانية، مشرقة كشمس نهارا تنير ظلمتي وتدفئ برودة أيامى، تجذبني لدنيتها وتدعوني للحياة لكن كيف أجيب سؤالا يقف بيني وبينها " من أنت؟ " أسمى لا يكفي بدون عائلة وثروتي لا تستر نسبي المجهول، وتبقي حياتي رمادا تذره الرياح في عينيي كلما تطلعت للغد.

ها انا أقف بعتبة بيتها اقرع، ربما الحق ربيعا تزهر فيه الاوراق الجافة من جديد وينبت العود المكسور جذورا تربطه بأصل شجرة الحياة.