محمد صلاح البدرى
منذ أيام قليلة رحل عن هذه الدنيا الدكتور محمد مشالى.. ذلك الرجل الذى نال لقباً مميزاً بأنه «طبيب الغلابة»..!

جدل كبير خلقه ذلك الرجل منذ ظهوره الأول إعلامياً.. كثيرون اعتبروه نموذجاً ينبغى الاحتذاء به.. وآخرون انتقدوا عدم اهتمامه بمظهره.. ورفضوا تلك العيادة البسيطة التى لم يحاول تطويرها أو تطوير نفسه طيلة سنوات عمله الطويلة.. الجدل تجدد مرة أخرى فى رمضان الماضى حين حاول أحد البرامج إهداءه عيادة حديثة ومبلغاً كبيراً من المال.. فرفضه الرجل فى بساطة تدل على أنه لم يتصنع الزهد يوماً.. بل آمن به واعتنقه حتى آخر لحظات حياته..!

الرجل كان مثالاً واضحاً وصريحاً للإيمان بما يفعل.. مؤمناً برسالته التى خلقه الله من أجلها.. دون أن يلتفت إلى مقابل لهذا العمل تقريباً..!

النموذج الذى يجسده الدكتور مشالى رحمه الله هو ذلك الذى يدعونه «بالمثال الصارخ» أو الـcrude example.. هو درجة رفيعة من التجرد وإنكار الذات يمكن القياس عليها بنسب متفاوتة.. هو المطلق الذى لا يمكن تعميمه بأى حال.. وهو فى الوقت نفسه بعيد كل البعد عن الصورة الذهنية التى يحلم بها كل طالب فى كلية الطب حين قرر امتهان تلك المهنة..!

الأمر يتعلق بشق هام من عمل الطبيب وهو بث الثقة فى مريضه.. كل طلبة الطب تعرف جيداً أنها مطالبة بمظهر وقور مناسب لاكتساب ثقة المريض.. فنموذج الطالب المهندم الذى يبعث على الثقة هو أحد العوامل التى تعتمد عليها علاقة الطبيب الناجح بمريضه.. بل ربما كانت أهمها على الإطلاق..!

وفاة الدكتور مشالى أعادت الجدل حول صلاحية ذلك النموذج الزاهد للطبيب فى مقابل النموذج الآخر الحديث للطبيب المهندم الذى يرتدى العوينات.. وأعادت المقارنات حول المنفعة التى كان يقدمها الدكتور مشالى للفقراء فى مقابل ما يقدمه باقى الأساتذة والاستشاريين فى مختلف التخصصات.. الخلط هنا فى قصور الخدمة المقدمة للفقراء وليس فى تقديمها بلا مقابل.. هل يفهمنى أحد؟!

لا جدال حول قيمة ما قدمه الدكتور مشالى للإنسانية.. الجدال حول صلاحية النموذج نفسه لخدمة الطب أو تقديم رعاية طبية عالية الجودة للمرضى.. فلا أعتقد أن هذه الدرجة من البساطة أو الزهد مكنته من متابعة الأبحاث العلمية الجديدة.. أو جعلته يستطيع مواكبة التطور الذى كان يحدث كل يوم فى مجال الطب تحديداً..!

أعرف أن ما أناقشه ربما لن يلقى إعجاب البعض الذين يفترضون أن رسالة الطب ينبغى أن تبقى بعيدة كل البعد عن الماديات.. ولكن الفارق هنا أننا نتحدث عن «المهنة» وليس عن الرسالة بشكل مطلق.. وأن «ممتهنى» الطب ينبغى أن يحصلوا على مقابل مناسب نظير عملهم.. على الأقل ليقوموا بتأدية عملهم دون ضغوط اجتماعية قاسية..!

عودة الكلام عن الدكتور مشالى رحمه الله ربما كانت فرصة جيدة لتوثيق أن النوايا الطيبة وأفعال الخير تخص أصحابها وتنفع ذكراهم التى لن يختلف عليها أحد.. ولكنها عديمة القيمة والتأثير عند التعميم أو محاولة فرضها كثابت قيمى فى المجتمع..!

الترويج لنكران الذات الذى يمثله الدكتور مشالى فى غياب نظام صحى محكم يقوم على حساب التكلفة المتكامل للخدمة الطبية التى تقدم للمريض.. وتحسين أوضاع الأطباء بما لا يهدر فرصهم فى حياة كريمة.. يهدر كل الفرص لإصلاح منظومة انتظرت عقوداً لتخرج من الرهان على «إنسانية» الطبيب وليس على عمله الذى يؤجر عليه ما ينفقه على نفسه وأسرته..!

سيظل الدكتور مشالى رمزاً للتجرد والزهد لن يتكرر كثيراً.. وفى الوقت نفسه.. يبقى التمييز بينه وبين ما نرغب فيه فى ملف الرعاية الصحية من رفع مستوى معيشة الأطقم الطبية هدفاً ينبغى ألا نهمله أو نتناساه، حتى لا نقع فى خلط لن يفيد أحداً.. أو هكذا أعتقد..!
نقلا عن الوطن