بقلم : اندرو اشعياء
شجعتني نظرته المبتسمة على الاقتراب أكثر، ودون وعي مني... جثوتُ أمامه!! سألته السؤال الذي أعددتُه مسبقًا: «أيها المعلم الصالح، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ » 
 
فاجاب: «لماذا تدعوني صالحًا؟....» ولكن أيّة إجابة هذه؟ ألا أعلم أنا – وقد تربّيتُ عند قدمي غمالائيل العظيم – أنه ليس أحد صالح سوى الله؟ لابدّ وأنه يقصد شيئًا آخر! ماذا يريد أن يقول؟ تزاحمت الأفكار في رأسي لثوانٍ قطعها صوته: «احفظ الوصايا» 
 
«أوّاه يا يسوع... لقد حفظتُها، حفظتُها منذ حداثتي، أكرّرها كل يوم، بل وعدة مرّات في اليوم... أحاسب نفسي كل يوم لئلا أكون قد سهوتُ عن إحداها... ولكني بعد كئيب، حزين، متحيّر، أشعر بنفسي بعيدًا عن الملكوت وصاحبه » 
 
بدا لي أنني أجبت في سذاجة طفولية. أنهضني ونظر مليًّا في عينيّ، ما أجمل عينيه! ينبعث منهما دفء ويشعّ منهما نور، تخرج من وجهه طاقة من الحب والحنان، صمته بليغ كما كلامه، أيوجد هكذا بين بني البشر؟! رَبَتَ على كتفي، ومشينا بضع خطوات قبل أن يلتفت إليّ ليقول لي: "إن أردت أن تكون كاملاً، فاذهب وبع كل مالك، وأعطه للفقراء، فيكون لك كنز في السماء، وتعال اتبعني". على الرغم من أن المسافة بيننا لم تتعدَّ السنتيمترات، ألا أنني أحسستُ أنه قد أصبح – فجأة – يبعد عني آلاف الأميال، شيء ما باعد بيننا رغم قربنا! أطرقتُ رأسي ومضيت حزينًا... عشر سنوات عشتها حزينًا... عشر سنوات وصدى كلماته يرنّ في أذنيّ... كلما أمسكت صرّةً من المال سمعته يقول لي: «بع كل مالك»... إذا أخرجت عشوري وبكوري للرب سمعته، حين آوي إلى فراشي في الليل يطاردني صوته وتلاحقني عيناه... نظرة الحب التي رأيتها في وجهه ارتسمت في ذهني نظرة للقضاء... مهما أغمضت عيوني او أظلمت حجرتي أراه. كل ما في كياني يصرخ: «لا أستطيع»، لا أستطيع أن أترك مالي.. لا أستطيع أن أتخلّى عنه... أي ضرر في اقتنائي المال؟ ألا أقدّم منه لله؟، ألا أساعد به الفقراء؟، الا يؤمنّني شر الغد؟،... لا أستطيع!! ألا يمكنني أن أتبعك ومالي معي؟ أستطيع أن أموّل أسفارك، وأن أنفق على تلاميذك من هذا المال... ما لي هو أنا... لا يمكنني أن أنفصل عنه!!
 
عشر سنوات أسمع نداءه، وعشر سنوات أجيب بأني لا استطيع... حتى كان يوم ربيعي آخر:
- الحبيب برنابا... أين أنت يا رجل؟ شهور طويلة لم أرك خلالها!
- نعم أيها الصديق، مرّ وقت طويل منذ التقينا آخر مرة.
- حدّثني عن أحوالك، هل محصولك وفير هذا العام؟
- في الحقيقة... لقد أتيتُ لأودّعك، فأنا مسافر إلى أنطاكية.
- أنطاكية!!! ماذا ستفعل هناك؟؟ وماذا عن أرضك وتجارتك؟؟؟
- أنا ذاهب إلى هناك لكي أخدم يسوع... فهو يريدني هناك. أمّا عن الحقل فقد استثمرتُه في تجارة أكثر ربحًا.
- حقًا؟! ما هي؟!
- لقد بعتُه... ووزّعتُ ثمنه على الفقراء... (صمت برهة ثم قال:) أنا لا أحكي هذا عادة لأحد، ولكنك تعلم مقدار حبي لك، فنحن صديقان منذ حداثتنا.
كان لكلامه وقع السوط على جسد نحيل... أحقًّا باع كل ماله؟ هل سيستطيع أن يتبع يسوعه هكذا.. صِفر اليدين!!
- كيف استطعتَ أن تفعل هذا؟
أخذنا نتحدّث قرابة الساعتين، حكى لي كيف تعرّف بيسوع، وآمن به، كيف أنه شعر فيه بكفايته وأمانه، كيف أن المال لم يعد يمثل له أي شيء سوى عائق يربطه بحياة قد تبرّأ منها يوم تبع يسوع، وكيف أن يسوع يسدّد احتياجات روحه قبل جسده، ومع ذلك لا يغفل عن احتياج الجسد.
تذكّرتُ تلك الهُوّة التي فصلتني عن يسوع يوم قابلتُه، واليوم أرى أحد أعزّ أصدقائي يعبرها في سلاسة ويُسر!
انهمر دموعي كثيرًا جدًا! فظن برنابا انها دموع الفراق! احتضنني، وبكيتُ على كتفه طويلاً، وشعرت بدموعه تبلّل رأسي.. بعد مئات السنوات، كنت أول من جرى إلى باب الفردوس لالتقي الشيخ أنطونيوس. حالما التقيتُه، بادرتُه بالسؤال:كيف استطعت أن تفعل هذا انت ايضًا وجميع بنيك؟
"من قهر حب المال فقد قطع عنه الهموم ومن استعبد له فلن يصلى يوماً صلاة نقيه"  القديس يوحنا الدرجى