د.جهاد عودة
تطور النظام الدولى الحديث والمعاصر مرتبط بسبب ونتيجة بالمدن الضخمه . اليوم ، 55٪ من سكان العالم  متحضرون ، وبحلول عام 2030 تتوقع الأمم المتحدة أن 60٪ من سكان العالم سيتمدين . فالمدينه فى الاصل هى تجمع حضرى متوسع  يتكون من مركز مربوط بضواحٍ و مراكز  ومناطق حضريه حواليها.  والهجوم الحقيقى للكورونا  يتمثل اصابته مفهوم المدينه كتجمع حضرى معقد من ناحيه ومعبر  عن تطور المجتمع والنظام  الدوليين من ناحيه اخرى.  فكلما تطورت المدن وتضخمت فى الاعمال والمشارب وتعقدت فى البيروقراطيه صارت المدن  متروبلس و مدن ميجا   Metropolisو Mega Cities  وجزءا هاما من بلدها كمقر للحكم  او الاداره او الاعمال .

مدينه تعتبر عظيمه عندما يزيد عدد سكانها على ما يربو عن 10% او اكبر من حجم التفاعل الاجتماعى،  وكلما زاد عدد السكان  وزاد التركيز الحضرى زاد  التعقيد الاجتماعى .  وفى العالم 33  مدينه عظمى  كانت فى الاصل مدينه ضخمه.  منذ اكتشف العالم هذا التحول الديموغرافي العالمي ، ارتفع عدد المدن  العظمى التي تم تعريفها على أنها مدن يزيد عدد سكانها عن 10 ملايين ساكن .  وزاد العدد  من 28 في عام 2014 إلى 33 في عام 2018 ، أي أكثر من ثلاثة أضعاف في عام 1990.  المدينه الضخمه والاكبر منها العظمى تعانى  اكثر من مكافحة الأمراض ، وإنتاج الغذاء ، والتعليم ، والإسكان ، والعمالة ، والهجرة. من ضمن المدن العظمى  بانكوك وبيرو، ومدراس فى الهند ،  وجاكرتا فى اندونيسيا ، و بوجوتا فى  كولومبيا،  وباريس فى فرنسا وبنجالور فى  الهند ،  لاهور فى باكستان وموسكو فى الاتحاد الروسى ولوس انجلوس فى امريكا ، لاجوس فى نيجيريا، والقاهرة  فى مصر،  وكينشاسا فى الكونغو الديمقراطية ،ونيويورك فى امريكا ، وشنغهاى فى الصين  ولندن فى انجلترا  وبرلين فى ألمانيا .

والكورونا مرض ينتشر فى المدن الضخمه والذى لم تستطع السلطات الصحيه ايقافه ينتشر فى المدن العظمى.  ويرجع السبب الى اولا ، ضعف الابلاغ عن المرض فى المدن الضخمه بالاضافه ان كورورنا تتشابه مع  الانفلونزا الموسميه ، ثانيا،   فى المدن العظمى  تتكدس مجموعات اكبر من الشباب وصغار السن ذوي مناعه شبه طبيعيه بالتالى يصبح من الصعب الابلاغ الا فى حالات الطوارئ . فى قول اخر المرض ينتشر بشكل اسرع فى المدن الضخمه عن العظمى ولكن اذا انتشر فى مدينه عظمى كانت كارثه على المدينه وينتظر تعاظم الوفيات ولنا فى مدينة نيويورك نموذجا.

وإدارة المدينه دائما تمثل مشكله كبرى وتضع على صانع  القرار فى مراكز  الحكم والاداره والاعمال تحدٍ حرج من حيث اما التكيف او فشل المدينه . ونلاحظ  أن التغيير الاجتماعي السياسي يحدث في كثير من الأحيان في انفجارات مفاجئة : يظل النظام الاجتماعي مستقرًا لفترة طويلة من الزمن ، حتى تحدث صدمة خارجية و ويبدأ البحث عن  مسار جديد.  مثل الفيروس التاجي  -الكورونا-  صدمة  للعالم . وصار امامه البحث فى كيف يحدث التكيف والتقدم  الى الامام فى نفس اللحظه .  هناك ثلاثة مجالات من حياتنا الاقتصادية والاجتماعيه سيؤثر عليها الفيروس بشكل طويل المدى : 

1-  سفر الأعمال: غالبًا ما يُعتبر سفر الأعمال أمرًا بالغ الأهمية لنجاح المؤسسات  ومدى فعالية إدارتها. من الصحيح بالتأكيد أن الاجتماعات وجهًا لوجه تساعد في بناء العلاقات والثقة ، التي غالبًا ما تكون حاسمة لإنجاح المشروع. ولكن الآن بعد أن تم إجبار الشركات والمنظمات الأخرى على قطع أو إيقاف سفر العمل بشكل جذري  بدأ التفكير فى بدائل . الآن اضطر الموظفون إلى الاعتماد على مكالمات Skype أو Zoom  باعتبارها بديلا أكثر مرونة وصديقا للعائلة وأكثر استدامة بيئيًا. وفي ذات الوقت  سوف يرى أصحاب العمل  مصلحه فى خفض التكاليف بشكل كبير. لذلك في المستقبل ، قد نرى مستويات أقل بكثير من السفر التجاري.  

2- العمل عن بعد،  ستصبح ترتيبات اوقات العمل اكثر المرنة.  ولكن فى بعض الاحيان   العمل المكثف من المنزل يعتبر سيئًا للأفراد ،  حيث يميلون إلى العمل لساعات أكثر. كما  تخلق سلبيات للمنظمات ، حيث  ترفع تكاليف التنسيق .   سيظل للتواجد المادي اثر حاسم  فى بناء العلاقات وروح الفريق.  سيضطر الأفراد إلى بناء روتين جديد ، وسيتعين على المنظمات إيجاد طرق لإنشاء مساحات على الإنترنت للزملاء للتفاعل خارج الاجتماعات الرسمية.  يبقى أن نرى ما يمكن أن يكون بمثابة مبرد المياه الافتراضي - مكان يلتقي فيه الزملاء ويثرثرون ويبتكرون.  قد يجبرنا Coronavirus بشكل جماعي على أن نصبح أفضل في العمل عن بعد ، والذي يمكن أن يبرز كبديل عملي للعمل في مكاتب وسط المدينة.

3- تعطل الصناعة،  كانت العديد من الصناعات تشهد بالفعل اضطرابًا كبيرًا قبل إصابة الفيروس التاجي بسبب سرعه التغيير المؤسسى . ولكن الان الإجراءات المتخذة لمحاربة الفيروس التاجي سوف تسرع  من هذه التحولات الزلزالية. فى تهدد بشكل جدى منطق الخدمات المتدفقة كما يحدث فى امازون .  إن "اقتصاد البقاء في المنزل" الذي يتطلبه الفيروس التاجي سوف يسرع بشكل كبير الى  التحول لاشكال تنظيميه جديده  ، مما يجعل  السؤال حول تركيز السوق والحاجة المحتملة لاعاده التنظيم الانتاج أكثر أهمية. سيأتي التغيير من جانب الطلب والعرض.  في مجالات أخرى ، سيكون التغيير دراماتيكيًا وربما للأبد. على سبيل المثال ، كان التعليم العالي بطيئًا في الانتقال إلى مساحة التدريس عبر الإنترنت ، ولكن الآن اضطر الى تقديم و خدمات  عبر الإنترنت باعتبارها الطريق الوحيد الان .  فمن غير المحتمل أن تعود الجامعات تمامًا إلى الوضع السابق. هناك فرص هائلة يوفرها التعليم عبر الإنترنت - من حيث الأسواق الجديدة للطلاب وتقديم أرخص بفضل  سبل فورات الحجم.

أحد أكثر الأسئلة إلحاحًا التي سيواجهها المخططون الحضريون هو التوتر الواضح بين التكثيف - الدفع نحو المدن التي أصبحت أكثر تركيزًا ، والتي يُنظر إليها على أنها ضرورية لتحسين الاستدامة البيئية - والتفريق ، والفصل بين السكان ، وهو واحد من الأدوات الرئيسية المستخدمة حاليا لمنع انتقال العدوى.   فى العموم  كان رفع الكثافة شيئا جيدا: المدن الأكثر كثافة هي أكثر كفاءة في استخدام الطاقة. لذلك أعتقد أنه على المدى الطويل سيكون هناك صراع بين المطالب المتنافسة للصحة العامة والمناخ .  فى المستقبل سيكون هناك تركيز  على إيجاد حلول التصميم للمباني الفردية والأحياء الأوسع التي تمكن الناس من الاختلاط بالآخرين  مع  المحافظه على التدابير الاحترازيه  وعدم الاصابه بالمرض .  وأول عائق يتمثل فى التكلفة العالية بشكل لا يصدق من الأراضي في المدن الكبرى مثل نيويورك وهونغ كونغ  الامر الذى يتطلب اصلاحات  اقتصاديه جوهريه  فى بنية الاقتصاد العالمى . إن " انخفاض تكلفة المسافة "  والتى كانت مثالا اقتصاديا فى التخطيط لابد الان ان يتم البحث عن نموذج  اقتصادى احصائى جديد .

قد يكون التأثير المحتمل الآخر للفيروس التاجي تكثيف البنية التحتية الرقمية في فى  المدن . كما سجلت كوريا الجنوبية ، وهي إحدى الدول الأكثر تضررًا من المرض ، بعض أقل معدلات الوفيات مثل المانيا ، وهو إنجاز يمكن إرجاعه جزئيًا إلى سلسلة من الابتكارات التكنولوجية - بما في ذلك  رسم خرائط ونشرها  للمرضى المصابين.. في الصين ، استعانت السلطات بمساعدة شركات التكنولوجيا مثل Alibaba و Tencent لتتبع انتشار Covid-19 وتستخدم تحليل "البيانات الضخمة" لتوقع أين ستظهر مجموعات  القابله للاصابه. إذا كان أحد النتائج السريعة التي توصلت إليها  الحكومات  هو أن "المدن  الذكيه " هى الاكثر ملاءمة للحفاظ على الصحه العامه .  وتخليق  روبوتات امنيه تابعه للشرطة يقود  منصات محطات السكك الحديدية عالية السرعة  صار امرا لازما  .  ويقوم هذا الجهاز كما  حدث فى الصين  بدوريات في الأماكن العامة ، بتحذير الناس عندما لا يرتدون أقنعة ، ويتحقق من درجة حرارة الجسم وهويتهم.  والمعضله هى كما علمنا التاريخ  ان  اللوائح التي تم وضعها للسيطرة على المدن في أوقات الأزمات ، من الثورة الفرنسية إلى 11 سبتمبر في الولايات المتحدة ، فقد استغرق العديد منها سنوات أو حتى قرونًا لتتفكك.  في وقت تتزايد فيه الإثنية العرقية على المسرح العالمي ، حيث تولى الشعبويون اليمينيون منصبًا منتخبًا في العديد من البلدان من البرازيل إلى الولايات المتحدة والمجر والهند ، يمكن أن تكون إحدى نتائج الفيروس التاجي ترسيخً الانفصال فى مجموعات  سياسية واقتصاديه   حيث هناك من يدعو الى حدود جديدة  حول المجتمعات الحضرية  يشرف عليها القادة الذين لديهم القدرة القانونية والتكنولوجية والإرادة السياسية لبناء هذه المجتمعات.
 
في الماضي  كانت  هناك حالة طوارئ طبية واسعة النطاق ، تحملت المجتمعات اليهودية وغيرها من الجماعات الموصومة اجتماعيًا مثل أولئك المصابين بالجذام وطأة الغضب العام. تشير الإشارات إلى " فيروس الصين " الذى يقول به  دونالد ترامب  قد يمثل كبش فداء كسمة من سمات عواقب هذا الوباء.