عمرو جودة

منذ بداية أزمة كورونا كتبت مقالا نشرته هذه الجريدة الغراء- مجد الثورة ـ خلاصته أن "الفيروس سيغير الخريطة الجيوسياسية للتحالفات الدولية، وأن العالم بعد كورونا سيختلف تماما عن عالم ما قبل كورونا"، وخلال الأيام الماضية انهمر سيل من المقالات التي تؤكد نفس الفكرة، وآخرهامقال نشره السياسي والمفكر الاستراتيجي الأمريكي الأشهر هنري كيسنجر، في صحيفة وول ستريت جورنال،وقال فيه نصا: "إن العالم بعد كورونا سيختلف تماما عن عالم ما قبل كورونا"، لكن أحدا لم يستطع أن يتخيل أويستشرف شكل وتكوين النظام العالمي الجديد بعد كورونا، وهذه مهمة صعبة للغاية في ظل ضبابية الموقف، بل والصدمة من الانهيار السريع للرأسمالية الغربية والليبرالية الجديدة، في أوروبا وأمريكا نفسها، والتي أصبحت عاصمتها الاقتصادية، وعاصمة رأس المال العالمي،"نيويورك" أكبر بؤرة للوباء في العالم، بل ونشرت صحيفة نيويورك تايمز تقريرا قالت فيه إن أزمة فيروس كورونا تعد أكبر فشل للمخابرات الامريكية منذ معركة بيرل هاربر، ورغم أني أعتقد أن الصحيفة تبالغ في هذا، فالمشكلة لم تكن الحصول على المعلومات فهي متوفرة لدى شبكتها الاستخبارية الجبارة، وإنما المشكلة في تحليل المعلومات، وتقدير الموقف، وطريقة التعامل مع الأزمة، لكن الصحيفة محقة في المقاربة بين معركة بيرل هاربر، وأزمة كورونا،فإذا كانت المعركة التاريخية قد أخرجت المارد الأمريكي من القمقم، كما قال جنرالات الحرب اليابانيين وقتها، فأن أزمة كورونا ستعيد المارد الأمريكي وبالتدريج إلى القمقم مرة أخرى.
 
ورغم ضبابية الموقف، يمكننا أن نؤكد أن آسيا وفي قلبها الصين وكوريا الجنوبية وربما اليابان، ومعهم روسيا وألمانيا، سيصيغون عقد تحالفات النظام العالمي الجديد، بفضل نجاحهم الأسطوري في احتواء فيروس كورونا داخل البلاد، ومن ثم مساعدة الدول الأوروبية المتضررة من الفيروس، والمتابع لـ"حرب الكمامات" بين الدول الغربية التي تسطو على شحنات طبية قادمة من الصين وروسيا، سيلاحظ وبدون أي التباس أن التحالف القائم على نتائج الحرب العالمية الثانية بين أوروبا الغربية وأمريكا، قد انهار إلى الأبد، وثمة تحالف جديد يولد من رماد أزمة كورونا .
 
النموذج الصيني.. دور أكبر للدولة
وإذا تتبعنا خريطة انتشار فيروس كورونا وطريقة تعامل الدول مع الأزمة، نجد أن الدول التي تعظم دور القطاع الخاص وتهمش دور الدولة مثل الولايات المتحدة وأوروبا الغربية كلها، كانت الأفشل في التعامل مع الأزمة، بينما تلك التي تعظم دور الدولة مثل الصين وروسيا كانت الأنجح، ليس فقط في احتواء الوباء داخل حدودها، ولكن أيضا في تصدير المعدات الطبية للدول المتضررة ولا سيما إلى أوروبا وأمريكا، والذين يسرقون تلك المعدات من بعضهم البعض فيما يعرف الآن بحرب الكمامات، في ظل عجر كامل لشركات رأس المال الغربية، والتي لا تهتم أبدا بصحة الإنسان ولكن تهم فقط بأرباحها.
الحزام والطريق
 
وللصين مشروع جبار يعرف باسم "الحزام والطريق"، وهو إحياء لطريق الحرير القديم الشهير، وقد استثمرت الصين أموال خيالية في البنية التحتية والقواعد العسكرية اللازمة لحماية هذا الطريق سواء الذي تمر منه البضائع من الصين لبقية العالم، أو الذي تمر منه الطاقة والمواد الخام من العالم إلى الصين، وفي المقابل حاولت مبكرا الولايات المتحدة محاصرة الطريقين بنشر الأساطيل (خصوصا الأسطول السابع في بحر الصين الجنوبي)، والقواعد العسكرية وإشعال الحروب في العراق وأفغانستان وسوريا واليمن، ودعم الانفصاليين من الروهينا والإيجور.. الخ لمحاصرة هذا المشروع الجبار والذي انضمت إليه 40 دولة، لكن المؤكد أن أمريكا ما بعد كورونا لن تستطيع الاستمرار في نشر قواتها على طريق يمر بأغلب دول العالم، بل وسيتراجع انفاقها على السلاح بشكل كبير، خصوصا أن ثمة إعصار اقتصادي قد بدأ في التشكل، وسيعصف بالإمبراطورية الاقتصادية الأمريكية والتي تقع في عين الإعصار، ومن المؤكدأن الصين لن تفوت هذه الفرصة التاريخية، وستقوم بالمضاربة على الدولار الأمريكي لتنهي أسطورة العملة التي حكمت العالم لسنوات، والصين تملك بالفعل الأدوات اللازمة لذلك، ولكنها تتجه لذلك المسار خطوة خطوة وبهدوء وصمت شديدين، وبدون دعاية إعلامية فارغة.
 
مصر.. فرصة تاريخية للتحرر من سطوة الغرب
ما يهمنا هنا هو موقف مصر من هذا، هل ستتضرر مصر من الأزمة أم أنها يمكنها الاستفادة منها؟؟.. في الواقع أمام مصر فرصة تاريخية للتحرر من سطوة الغرب الكريهة المفروضة علينا منذ عام 1974، عندما قررنا أن 99 % من أوراق اللعبة في يد الأمريكان، وفتحنا بإرادتنا سوقنا أمام المنتجات الغربية، لتدمر الصناعة الوطنية التي أنشأها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وفي الواقع لقد بدأت عدة دول تسير مع هذا المتغير ومنهم أقرب حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة وهي السعودية، فخلال اجتماع منظمة الأوبك الأخير قررت المملكة عدم تخفيض إنتاج النفط وهو ما علق عليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن السعودية تهدف من هذا القرار تكسيح شركات النفط الصخري الأمريكية، متجاهلة بذلك كل مطالبات الرئيس ترامب للمملكة بتخفيض الإنتاج، حتى لا تفلس الشركات الأمريكية،والتي تنتج النفط الصخري الأعلى تكلفة من النفط العادي.
 
كما أن مصر يمكنها الاستفادة من موقها الاستراتيجي بين الشرق والغرب، وحسب خريطة الطريق البحري لمشروع الحزام والطريق، فأن أغلب البضائع المنقولة من هذا الطريق ستمر حتما عبر مصر وقناة السويس، والأهم أن الصين تشجع دول العالم للانضمام لهذا المشروع، ليس فقط بالاستفادة من نقل السلع عبر حدودها، وفرض رسوم عليها، ولكن تطرح إنشاء مصانع تكميلية لسلعها في الدول التي يمر منها الطريق، فإذا كانت الصين تنتج سيارة، مثلا، فإنها تطرح على الدول التي تمر بها إقامة مصانع لإنتاج بعض مكونات هذه السيارة كالإطارات أو غيرها من المكونات، وبذلك تستفيد الدولة التي تمر منها السلع ليس فقط من الرسوم والجمارك، ولكن أيضا بتوطين صناعة محلية وإقامة مشروعات تنعش اقتصادها، والأهم من ذلك أن الصين، والدول التي ذكرتها، ليس ليها تاريخ استعماري، مثل الدول الغربية التي صنعت حضارتها بدماء شعوب العالم الثالث، سواء بالاستعمار العسكري المباشر، أو الاستعمار الاقتصادي غير المباشر.
 
والحق يقال - وأعلم أن ما سأطرحه في السطور التالية سيفتح علي الباب لمزايدات لا حصر لها لكني سأكتب ما أؤمن به ورزقي على الله- ورغم أي خلاف سياسي مع الرئيس السيسي، فإن النظام الحالي أتخذ خطوات شديدة الأهمية في اتجاه الخروج من التبعية للغرب ولأمريكا تحديدا، وذلك بشراء أسلحة من روسيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والصين وكوريا الجنوبية، منهيا بذلك احتكار أمريكا لسوق السلاح المصري منذ كامب ديفيد، وهو أمر شديد الأهمية في طريق استقلال القرار السياسي، فقد حرصت أمريكا علي احتكار توريد سلاح لمصر لتفرض على مصر بهذا السلاح السياسة الأمريكية وليس العكس، والآن وبعد انهاء احتكار أمريكا لسلاحنا فأن مصر يمكنها أخيرا أن تقرر بنفسها سياسة هذا السلاح لا أن يقرر هو سياستها.
 
وعندما افتتح الرئيس السيسي قاعدة برنيس على البحر الأحمر تضاربت تفسيرات المحللين حول أسباب إنشاء هذه القاعدة، فمنهم من قال إن هدفها تأمين الحدود الجنوبية مع السودان، ومنهم من قال إنها لتهديد أثيوبيا، وربما يكون هذا صحيح جزئيا، لكن الهدف الأساسي هو تأمين الملاحة في البحر الأحمر والقادمة عبر طريق الحرير الصيني، في ظل توقعات بسحب القطع البحرية الأمريكية والتي تؤمن الملاحة في البحر الأحمر منذ منتصف السبعينات، فهذا الممر ليس مهما لأمريكا نفسها وتجارتها، ولكنه شديد الأهمية لحلفائها الغربيين، ومع التوقعات بانسحاب أمريكا العسكري بشكل تدريجي من المنطقة لتكلفته الشديدة، فلم يكن أمام مصر إلا خيارين، الأول أن تستعين بقوة عظمى، وهي الصين في هذه الحالة، لحماية التجارة في البحر الأحمر، كما فعلت دول أخرى سمحت بإقامة قواعد عسكرية صينية، وبذلك تكون استبدلت هيمنة غربية بهيمنة شرقية، أو أن تقوم بنفسها بحماية الممر البحري الحيوي، وهو ما نفذته مصر بالفعل، وهذا السبب الرئيسي لإنشاءالأسطول الجنوبي وقاعدة برنيس الكبيرة وهو ما يحسب للرئيس السيسي .
 
كما قامت مصر بإنشاء تحالفات مع دول جنوب أوروبا، ولا سيما قبرص واليونان وإيطاليا، واعتبر البعض أن الهدف منها هو غاز البحر المتوسط، وهذا بالفعل جزء مهم من الهدف، كما استهجن البعض الصفقة العسكرية الضخمة وقيمتها تقارب 20 مليار دولار بين القاهرة وروما، وكذلك شحنات المساعدات الطبية المصرية إلى إيطاليا، والهدف الرئيسي من هذا ليس فقط الغاز ولكن لأن تلك الدول هي المدخل الجنوبي للقارة الأوروبية،والمتوقع أن تمر عبرها تجارة طريق الحرير البحري من وإلى القارة العجوز بكاملها، كما أن العلاقة القوية مع إيطاليا تخدم المصالح المصرية في ليبيا وإثيوبيا، فالمعروف أن إيطاليا تدعم حكومة السراج الإخوانية، ولها نفوذ تاريخي واستثمارات كبيرة في إثيوبيا منذ غزو موسوليني للحبشة، لذلك فأن كل ما سبق خطوات شديدة الأهمية في طريق تكوين تحالفات المستقبل والتي تشكل عالما جديدا، نأمل أن يكون لمصر دورا هاما في صياغته لتحتل موقع الفاعل، بعدما قبعت لسنوات طويلة في موقع المفعول به.
 
اطلقوا سراحهم
وفي المقابل على الدولة أن تتخذ خطوات جادة في اتجاه المصالحة السياسية، وأن تطلق سراح المحبوسين السياسيين الذين لم يتورطوا أو يشتبه في تورطهم في أي نشاطات إرهابية، وبهذا تحقق هدفين، الأول حمايتهم من خطر الإصابة بالفيروس نتيجة التكدس داخل السجون، والثاني تهدئة المناخ السياسي وتوحيد الجبهة الداخلية، وما أريد الإشارة إليه هنا أننا حتى الآن وبفضل من الله تعالي، بعيدين عن عين إعصار كورونا، ولو استمرينا بنفس الوتيرة يمكننا الخروج من هذا الأزمة بأقل الخسائر، لكن الأخطر من الفيروس هو العاصفة الاقتصادية التي ستعصف بالكوكب كله حتى لو توصل العلماء الآن لمصل وعلاج فعال للفيروس، والدول التي ستخرج بأقل الخسائر من هذه العاصفة الاقتصادية، سيكون لها دورا كبيرا في عالم ما بعد كورونا، وأعتقد ان لدينا فرصة اقتصادية لمقاومة هذه العاصفة، بفضل المشروعات الاقتصادية التي قام بها الجيش خلال السنوات الماضية .