بقلم : د.جهاد عودة 

أصل النظام الدولي، أنه قائم على التنافس والتواطؤ. وتعتبر حالة التعاون بأشكالها المختلفة، حالة ليست دائمة بل يُنتظر من التعاون الانكسار.  ومنطق الصراع الدولى احتواؤه  على سلوكيات تنافسية وتواطؤية وتهديدية وتفاهمية وغيرها الكثير. فى هذا المقال  نقول إن مسألة كورونا عززت من التنافس والتواطؤ الدولي علما بأن النظام الدولى بسبب سياسات الرئيس ترامب أشعل من قبل التنافس الأوروبي الأمريكى، والصينى الأمريكى والأمريكى الروسى  وغيره. في الأشهر الثلاثة منذ بدء انتشار الفيروس المميت انطلقت الصين وأوروبا والولايات المتحدة في سباق سريع وشرس حول من يصبح أول من أنتج لقاحًا، وهذا نهج وطني وليس عالميا بين الدول والشركات؛ لأن الفائز بتصنيع العقار له فرصة تفضيلية لسكانه، ويحتمل أن تكون له اليد العليا في التعامل مع التداعيات الاقتصادية والجيوستراتيجية من الأزمة الهيكلية. ومن المؤكد من سيحصل على الجوائز العلمية وبراءات الاختراع  سيكون له  النصيب من عائدات اللقاح، وهكذا يصبح الحصول على اللقاح أولا  أمر من أمور الأمن القومي العاجل. وخلف التدافع حقيقة مره: «أي لقاح جديد يثبت فاعليته ضد الفيروس التاجي -كورونا– آخذا فى الاعتبار أن التجارب السريرية في الولايات المتحدة والصين وأوروبا بدأت بالفعل - من المؤكد أنه سيكون نقصًا في المعروض، حيث تحاول الحكومات التأكيد على هذا أمام شعبها». فجأة تصبح ليست فقط قضية أمن قومى حالي بل أيضا متعلقة بشرعية نظام الحكم. في الصين يعمل 1000 عالم على لقاح. وقد تمت عسكرة هذه القضية وهذا هو البعد الثالث فى المسألة: طور الباحثون التابعون لأكاديمية العلوم الطبية العسكرية  لقاحا معمليا، وتقوم الصين بتجنيد متطوعين للتجارب السريرية. قال «وانغ جون تشى»، خبير مراقبة جودة المنتجات البيولوجية فى الأكاديمية الصينية للعلوم فى بكين، ((إن الصين لن تكون أبطأ من الدول الأخرى)). من جانب آخر، تحدث الرئيس ترامب في اجتماعات مع المديرين التنفيذيين للصناعات الدوائية، مؤكدا على ضرورة إنتاج لقاح  على الأراضي الأمريكية، وذلك لضمان سيطرة الولايات المتحدة على الإمدادات للقاح. قال مسئولون حكوميون ألمان، ((إنهم يعتقدون أن ترامب حاول إغراء شركة ألمانية، «CureVac»، للقيام بالبحث والإنتاج)). نفت الشركة أنها تلقت عرضًا للاستحواذ، لكن المستثمر الرئيسي فى الشركة أوضح أن هناك نوعًا من هذا الاقتراب،  فرد على سؤال من المجلة الألمانية «سبورت 1» حول كيف تم الكشف عن الاتصال مع  الرئيس ترامب، قال «ديتمار هوب» الذي تمتلك شركته ديفيني هوب بيوتك القابضة لأكثر من 80 في المائة من الشركة: ((أنا شخصيا لم أتحدث إلى الرئيس ترامب، تحدثت إلى الشركة وأخبروني على الفور عن ذلك وسألوني عن رأيي، وعرفت على الفور أنه غير وارد)). أكد «فريدريك فون بوهلين»، المدير الإداري للشركة القابضة التي تمتلك 82 في المائة من CureVac: ((كان هناك تنبيه عالمي بأن التكنولوجيا الحيوية هي صناعة استراتيجية لمجتمعاتنا)). من جانب ثالث، كان هذا الأمر كافيًا لدفع المفوضية الأوروبية إلى التعهد بتقديم 85 مليون دولار أخرى للشركة، التي حصلت بالفعل على دعم من اتحاد لقاحات أوروبي. فى هذا السياق عرضت شركة صينية 133.3 مليون دولار على حصة في الأسهم واعتبارات أخرى من شركة ألمانية أخرى في سباق اللقاحات  وهى شركة  BioNTech . 

ومثلما أصرت الدول على بناء طائراتها بدون طيار، ومقاتليها الشبح وأسلحتها السيبرانية الخاصة بها، فإنها لا تريد أن تكون مدينًه لقوة أجنبية للوصول إلى الأدوية اللازمة في الأزمات.  وهكذا انطلقت المنافسة الجيوسياسية صحية؛ لأن النجاح لا يمكن  تقسيمه مع العالم. فلا يجوز تكرار ما حدث فى وباء «إنفلونزا الخنازير» في عام 2009، عندما كانت هناك شركة في أستراليا وكانت من بين أول من طور لقاحًا معمليا. ولكن السلطات فى الولايات المتحدة الأمريكية قامت بإفساد الطلب.  والتخوف عند مخترعى اللقاحات من أن الشركة الناجحة فى الوصول الأول للعقار سيتم تأميمها فى لحظه نجاحها. فالشركات الدولية للأدوية لا تغامر فى إنتاج لقاحات من غير موافقة السلطة الوطنية، أما غير ذلك  فالسوق العالمى مفتوح.  في الأوقات العادية، هناك دائمًا عنصر من المنافسة الوطنية لتطوير الأدوية. في الأشهر التي سبقت اندلاع الفيروس التاجي في «ووهان»، بدأ مكتب التحقيقات الفدرالي جهودًا لاستئصال العلماء الذين يعتقدون أنهم يسرقون أبحاث الطب الحيوي من الولايات المتحدة، ويركز البحث في الغالب على العلماء من أصل صيني، بما بين المواطنين الأمريكيين المتجنسين ولهم علاقات نيابة عن الصين.  وكان هناك 180 حالة قيد التحقيق  2019.  من ناحية أخرى، أوضحت الصين أنها تبحث عن بطل وطني -يعادل الدور الذي تلعبه هواوي-، عملاق الاتصالات الصيني، في السباق لبناء شبكات 5G حول العالم. إذا استمر نمط Huawei، يمكن أن نتصور أن الصين ستحصل مزايدة لتعظيم نفوذها على البلدان الفقيرة أو الأقل نموًا؛ لأنها ستحصل على لقاح بتكلفة معقولة. هناك بالفعل إشارات إلى أن الصين تستغل هذه اللحظة المتميزة. فكان قرارها بشحن أطقم التشخيص إلى الفلبين  رغم أنها حليف للولايات المتحدة، ومساعدة صربيا، مؤشرًا رئيسيًا لما قد يأتي من خلال الأدوية واللقاحات، عندما تكون متاحة. أثار ضغط ترامب على شركة 3M توبيخًا من جانب رئيس الوزراء الكندي، جاستن ترودو لاستيائه الكبير بين الجمهور الكندى. وقال بصيغة تهديدية، ((إن التجارة الأمريكية الكندية تسير في كلا الاتجاهين)).  وزاد منبها: ((هذه أشياء يعتمد عليها الأمريكيون، وسيكون من الخطأ خلق عوائق أو تقليل كمية التجارة المباشرة بالسلع والخدمات الأساسية بما في ذلك السلع الطبية عبر حدودنا)).

تخشى البلدان النامية والتى لم تتسبب فى  Covid-19 من التخلف عن السباق في معدات الوقاية الشخصية وغيرها من المواد؛ لأنها لا تستطيع أن تضاهي القوة الشرائية للولايات المتحدة والدول الغنية الأخرى. إن منظمات المساعدة المستقلة التي تلبي احتياجات أكثر احتياجا وفقرا في العالم تجد نفسها تتنافس على اهتمام مصنعي السلع الطبية العالميين. حتى أن إدارة ترامب طلبت من مجموعات عالمية، المساعدة والمشاركة فى هذه الإمدادات للحكومة الولايات المتحدة. قال جيريمي كونينديك، المسؤول الأمريكي السابق المتخصص في الاستجابة للكوارث: ((نحن بحاجة إلى بعض التضامن العالمي، ولكن ما لدينا هى  منافسة عالمية)). يعكس التدافع الدولي للمنافسة على أجهزة التهوية وغيرها من العناصر التي تعتبر حيوية لوقف انتشار العدوى انعكاسا لندرة التنسيق المذهلة بين قادة العالم بشأن الاستجابة للفيروس، والتي ظهرت في أكثر من 180 دولة.  وهذا الضعف يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الأزمة وتمديدها، حيث نجد البلدان الفقيرة وغير القادرة على إيقاف الفيروس ستهزم  ويتحور الفيروس ويظهر فى شكل أكثر شراسة، ويظهر فى شكل موجه عالمية جديدة. أدركت إدارة ترامب الكثير من هذه المخاطر. وفي وثيقة استراتيجية صاغتها وزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، اعتقد المسئولون الأمريكيون بأن تخفيف أثر الفيروس في الدول الأكثر فقرًا ((أمر بالغ الأهمية لسلامة وأمن الشعب الأمريكي)). وأضافوا أن الفشل في القيام بذلك قد يعطل جهود الولايات المتحدة فى مساعدة الدول الأخرى على أن تصبح أكثر استقلالية ماليًا. وتؤكد الوثيقة أن ((سرعة وانتشار COVID-19  تفوق على الأرجح قدرة الاستجابة المحلية والموارد الموجودة في العديد من البلدان المهمة لمصالح الولايات المتحدة)). اعتمادًا على درجة الخطورة في كل بلد، من المتوقع أن يسبب COVID-19 اضطرابًا اقتصاديًا واجتماعيًا كبيرًا. وتضيف الوثيقة، التي تحمل عنوان «حساسية لكن غير مصنفة»، أن الآثار طويلة المدى يمكن أن تعكس مكاسب اقتصادية وإنمائية قيّمة تم تحقيقها على مدى سنوات عديدة، وبالتالى فإن البطء فى المساعدة الأمريكية فى رحلة البلد  للاعتماد على الذات يقوض مليارات الدولارات من الاستثمارات من قبل دافعي الضرائب الأمريكيين.

لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية بمفردها الوحيدة التي تفرض قيود تصدير بسبب الفيروس. فعل الاتحاد الأوروبي ذلك منذ أسابيع، بينما تشاجرت دول داخل الكتلة على الإمدادات. يوجد بالفعل أكثر من مليون حالة إصابة مؤكدة بفيروس كورونا في جميع أنحاء العالم، مع أكثر من 58000 حالة وفاة. لكن بؤر الفيروس لا زالت  في المقام الأول في البلدان الميسورة - الصين والولايات المتحدة وإسبانيا وإيطاليا. ويقول مسؤولون أميركيون ومحللو صحة عالميون، ((إن الأسوأ لم يأت بعد في أماكن أقل حظا مثل الهند ونيجيريا وبنجلاديش وأجزاء من أمريكا اللاتينية))، حيث البنية التحتية الصحية في العديد من هذه البلدان ضعيفة بالفعل، وتزداد ضعفا في المناطق الريفية على وجه الخصوص. علما بأن البعض منهم لديه أيضًا عدد ضخم من السكان الحضريين متركزين فى أماكن ضيقة، مما يجعل من الصعب ممارسة قواعد «الابتعاد الاجتماعي». كما أن جماعات المساعدة غير الحكومية غير مجدية عمليا في المنافسة على الإمدادات الطبية. غرد رائد الأعمال التقني «Elon Musk»، مؤسس Tesla، ((أن شركة السيارات لديها مراوح إضافية معتمدة من FDA. سيشحن إلى المستشفيات في جميع أنحاء العالم داخل مناطق تسليم تسلا. تكلفة الجهاز والشحن مجانية)).

أحد المستجيبين كان بشير أحمد ، وهو أحد كبار مساعدي رئيس نيجيريا، والذي  كتب لـ Musk: ((نيجيريا، بلدي العزيز في حاجة. برجاء إرسال 100 هنا، فنحن نحتاجهم حقًا، شكرًا!))، ولكن للأسف هذه كلها أشياء صغيرة. فمن الواضح أن وزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية عالقة في المنتصف؛ لأن الرئيس ترامب كثيرا ما يغير توجهه بفلسفة «أمريكا أولًا» على القول إن على الولايات المتحدة أن تضع احتياجاتها قبل الدول الأخرى،  وأن الحكومات الأخرى يجب أن تتقاسم المزيد من العبء العالمي للمساعدات الإنسانية. و على الجانب الآخر هناك رغبة أمريكية في إظهار استمرار الهيمنة الأمريكية في جميع أنحاء العالم، تلك الفكرة القائلة بأن أمريكا لا غنى عنها لأي جهد عالمي. وفرت الولايات المتحدة حوالي 274 مليون دولار من المساعدات للدول الأخرى التي أصابها الفيروس التاجي. وتأتي إعلانات المساعدة هذه في الوقت الذي كانت فيه الصين خصم الولايات المتحدة  المركز الأصلي.

يمكن القول باختصار، إن الولايات المتحدة الأمريكية المهيمن العالمى الأكبر لآخر 30 عاما يتضعضع تحت الضغوط المتوالية ويفقد تماسكه القيادي والاجتماعي.