بقلم – روماني صبري 
منذ دقائق هبطت حمامة على نافذة غرفتي وراحت تنقر زجاجها بقلبها الرحيم على مهل، ليتها تتزوج فيبني الذكر عشا بشرفتي، وحين تضع البيض، أراقبه من حين إلى حين، آه ... ما أعظم النظر إلى البيض المخصب، وبعد أن يفقس جميعه أشرع أربي الزغاليل، ورغم أن هذا استبداد مائع، إلا إنه سيجعلني منشرحة النفس... وقتها سيتوقف الذكر عن تعنيف الأنثى وسيعود يلاطفها ويحنو عليها، دون أن يقدم اعتذار بناء على رغبتها، ربما سأتهم نفسي أيضا بالوحشية وأخذ أجرع الخمر بخجل الأنثى، وأنا رغم أفكاري لا أهمل نفسي، فلتحيا الكتب إذا، لاسيما التي كتبت بأقلام الضعفاء، فحين أقرأها أطهر روحي وأفرط في الفرح، أتدري أيها السيد المحترم مهما يكن من أمر لازلت أحترم شبابي، حتى إنني اقتربت من تقبيل يدي احتراما لروحي وجسدي ... عندما تسلل ضوء النهار المقدس إلى غرفتي ، راحت الأمطار تتساقط وتتكسر على النافذة فزخمت الأجواء برائحتها المنعشة، إلا أن ذلك طفح بالرعب في قلب الحمامة الصغير، فرمقتني هنيهة ثم طارت، فولجت إلى المطبخ غير مأسوف لحالي، وسرعان ما فتحت الثلاجة لأتناول الكثير من قطع الكيك والكوكيز، ثم أعددت لجسدي فنجان من القهوة، ورحت أشربه على مهل وأنا أذرع المطبخ طولا وعرضا، مؤكدة لنفسي أن الراحة والهدوء يسكنان هنا في منزل والداي. 
 
ولأن عقلي يغلي ويثور أقول :  طوبى لعلماء النفس، بائعي الخضار، جامعي القمامة، الذين لا يصدرون أحكاما على الآخرون، والذين يغالون في جلد أنفسهم عندما تعرفهم خيبة الأمل، طوبى للذين عاشوا في القرن التاسع عشر وما قبل الميلاد، العلماء، الأطباء، الفنانين، الذين يطورون أفكارهم، الرجال حين يبكون، الذين يتطلعون آلي المستقبل ولا يتقاتلون حين يتجادلون، وأيضا هؤلاء الحانقين عاضين أصابعهم غير المبالين بالقضايا الجوهرية، النابضون حماسا، المتقدين ذكاء، الحمقى، من قدموا توبة داخل السجون، الجادين، التافهين، الذين يتنمرون على أنفسهم، من ينشغلون بالتدريس ويخافون الأمراض، الذين يستعيدون ذكرياتهم فيضحكون تارة ويبكون تارة آخري، من يتحدثون اللاتينية والعربية والفرنسية والروسية وما إلى أخره... وطوبى لك أيضا. 
 
على حين فجأة تذكرتك ثانية، وإذا بي أمسك القلم لاستكمل لك، وليس مرد ذلك أن ثمة ما يغتال روحي، لأن أخر أسبوع من الشهر الماضي أنقضى بسلام، ولكن أتدرى ما يؤرقنا ؟، سأجيب وفقا لوجهة نظري بعيدا عن كتب الأدباء والفلاسفة : انه حين يميل الإنسان لآخر، أما لماذا أقول ذلك في هذا الوقت فربما فقدت السيطرة على نفسي، قد التقيتك على أرض الواقع بعيدا عن الخيال، فوجدتك رجلا حنونا عطوفا كدت تثب من مقعدك لتقبلني في جبيني، أتتذكر مثلي هذا اليوم ؟ ... كانت الأجواء بالمطعم شديدة السحر ، وشرائح اللحم شهية مشوية ومزينة بالخضار السوتية، حتى خيل إلي أن الطعام مطهو في المنزل، عدا النبيذ كان رديئا حقا، لكنه رغم ذلك لم يبعث الحزن ألي النفس، بعد انتهاء تلك السهرة، عدت إلى منزلي فدخلت غرفتي فإذا بي أقول غير فزعة بعدما رقدت على سريري ودفنت وجهي في وسادتي معتمرة قبعتي الدانتيل التي أبديت رضاك عنها رغم أنك لست خليلي ولا تجمعني بك قرابة الدم ! : بالحق التقيت أخيرا رجلا شهما غير نرجسيا عن طريق الصدفة، ولمست فيك ذلك حين أخبرتني بأنك حققت كل أحلامك في خيالك، أما على أرض الواقع فلم تفلح في تحقيق أي منها، واستطردت أقول : يبدو انه مصاب بمرض البوح للغرباء، وفجأة وجهت نظري للمرآة فوجدت نفسي أصر بأسناني حيث انتابتني متعة لا حدود لها.
 
ولكن أخبرني أليس البوح للغرباء خطأ إضافة إلى انه من أشد الجرائم التي يقدم عليها المرء في حق نفسه ؟! ، وليس مرد ما أفصحت عنه إنني أنتقدك وأحتقرك، وليشهد الله على كلامي، وقتها شعرت أيضا انك عمدت أن تمرر لي أنك تنتمي لطبقة المثقفين، فتذكرت قول أمي رحمها الله :" فلنضع حديث الرجال نصب أعيننا حين يتحدثون عن الشرف"، ربما كانت والدتي تغالي كثيرا ، ورغم أن قولها يحمل الكثير من الصواب، إلا أن الفتاة الذكية هي من تعارض وتنتقد، لاسيما حين يتحدثن النساء عن فشل حياتهن بسبب أزواجهن، كانت والدتي تحز في نفسها كثيرا، أما والدي فكان يشد على يدها بحرارة حين تشتد الخلافات بينهما، فأراه يمخط انفه ثم يثبت شاله على رأسه ، كان رجلا صامتا، لطالما طاب لي حديثه هو الآخر ، حتى ترأى لي إنهما الاثنان على صواب، ذات يوما قال لامي : أتذهبين معنا إلى السوق أو تبقين في المنزل؟، لم تعايره أي اهتمام كسيدة افترشت العراء منتظرة الموت بعد أن ضاقت ذرعا من الفشل الذي حالفها وهي تحاول اجتياز الحدود للتسلل إلى أوروبا، حينها اصطحبني إلى باب الشقة وشرعنا نجتاز سلالم العمارة فرحين، وقبل أن نركب سيارتنا، أبصرنا البواب الجالس على كرسيه المتهالك يدخن الشيشة، فوثب يلقي التحية ، وكالعادة منحه والدي بعض المال فودعنا الرجل ضاحكا ملء أشداقه.
 
 كان لابد أن يولد أبي في هذا العالم ، وكذا والدتي، ولا يترتب على ذلك إنهما كانا قديسين، اها نسيت أن أخبرك والدي كان أحد تجار الفاكهة الكبار، أما والدتي فكانت معلمة لغة انجليزية بمدرسة لا يرتادها إلا أبناء الأثرياء، أخبرها والدي مرارا إنها سنده في الحياة وكانت في كثير من الأحيان لا تبدي رضاها بهذا الكلام،لشيء لا يعلمه إلا الله وحده وبعده أنا ووالدي!، عندما رفضت أن تستقيل من مهنتها تلبية لرغبته أرجا الحديث، وأهال على الموضوع التراب بعد أسابيع تذكر، فاستمرت تعمل في التدريس، أريد أن يحتفي المصريين بذكرى رحليهما، كلا ليس المصريين فقط وإنما سكان العالم كله، لم تكن والدتي ميالة لأبي قالت انه اشتراها بالمال، حتى في مرة وصفته بالرجل الدميم، وقد يكون كذلك... كلا كلا قطع لساني بسكين تلمه، أرأيت كم أنا مغفلة ؟. 
 
في تلك الليلة بعد أن انتهينا من التسوق، دعاني لتناول العشاء في مطعم فاخر ، كان يأكل بنهم شديد كعادته، وكأي طفلة صغيرة تحب والدها وتعشقه رحت أختلس النظر إليه، كم كان فاتنا وقويا بعباءته وشاله، بعض زبائن المطعم التفتوا إلى طريقته في تناول، من بينهم عجوز ماكر رمقنا كثيرا من تحت نظارته، فأضحكني ذلك فقلت لوالدي : ربما يمتلك بندقية محشوة وعلى حين فجأة سيقرر قتلنا، فوقع في نوبة ضحك هستيري، لفتت إلينا الجميع ، وحين أنهى وجبته، قال لي أن الذين يلتفتون لغيرهم وهو يقومون بأشياء طبيعية ومألوفة سيضاجعهم الشيطان في أخر العمر ، قال ذلك بنبرة حادة، ثم نادى النادل فجاءه مسرعا، قال له أحضر الحساب، فلبى، فمد يده في جيب عباءته العميق الواسع واخرج محفظته، فتحها وتناول منها مبلغا يزيد عن الحساب، وفوق ذلك ترك بقشيشا سخيا للنادل بعدها منحني ابتسامة لن أنساها مهما حييت، في الحقيقة يمكن القول أن كل أفعال أبي كانت تصب في مصلحته، حتى طلبه الغفران من الله، فإذا نظرنا إلى البشر بكيفية تخلو من الدناءة لن ننطر وقتها البصاق في وجوههم، ومن الجائز أن يسب الإنسان من سبه، وإن فعل غير ذلك ستأكله نيران حنقه لاسيما إن كان ضعيفا.
 
بالأمس حلمت حلما شديد الغرابة، سأرويه لك، من خلال باب غرفتي المفتوح، رأيت فتاة شابة على نفس صورتي راقدة علي أريكة الصالة تغط في نوم عميق تشخر، وكان هذا مألوف لأن لكل قاعدة شواذ، استيقظت على حين فجأة ثم صرخت تقول : ملاكم لا يقهر أحكم قبضته على عنقي وناولني ضربته القاضية، فأختل توازني وسقطت اسمع أصوات العصافير كما أفلام الرسوم المتحركة القديمة، أيعقل أن نخلق لنعيش حياة الرعب ؟!، هناك من يرتعبون من شيئا ما، قتل زوجي منذ عام في شجار تاركا لي ولدين في عمر الزهور... في هذه اللحظة وصل عشيقها وقال لها : يحق لي أن اعتبر نفسي طفلك الثالث هيا "دلعيني"، وإن أردتي أن نتضاجع أخبريني ولنفعلها هنا على الأريكة، لتعرفها الدهشة بعدها، تأسف لها وشرع يبيض وجهه بحديث ماكر ، فقاطعته : اعتبرت نفسك طفلي الثالث رغم أني لم أنجب غير ولدين يا صاحب العمل، أسحب ما قلت حتى نتضاجع، جلس منهك القوى منكس الرأس، فواصلت تقول : الرجل من اجل الجنس يجيد الكذب، والمرأة أيضا ولكن حياءها ومكرها يتحكمان في الأمور بكيفية مرضية، لذا لا ضير ، أتعرف في حالة كان زوجي علي قيد الحياة لكنت صفعتك الآن وبصقت في وجهك ... كانت ليلة جيدة تضاجعا كثيرا، كانا سعداء، لكنها راحت تبكي على حين فجأة وقالت له : تضاجعنا كالأزواج وأسعدنا الجنس كثيرا، لكن هذا مكرهه للرب، أخبرتني والدتي أن الله يكره الزناة، لاسيما الفلاسفة لأنهم يفعلون ما يريدون ويكتبون دون وصاية من أحد، حتي في مصائبهم يصومون عن الدعاء، لذلك يكرههم وتلعنهم السماء، قالت ذلك والدتي حقا رغم أنها لم تفكر يوما أن تقرأ كتاب، ربما سمعت ذلك من جدتي... أنا لست جامدة مثلك، فألتمس لي العذر. 
 
وسامتك كانت ملفتة للنظر أيها الرجل الطيب، وأعترف عامدة، لأن إنكار المشاعر الطيبة أثم، ولكن قولي لماذا اقتحمت خصوصيتي وأنا أجلس وحيدة في المطعم؟، ولماذا أنا تركتك ولم أمنعك؟، بل رحت أتبادل معك أطراف الحديث، حتى عندما أخبرتني أن فستاني الضيق بين جمال جسدي، لم أعتبر ذلك تحرشا، بل مجاملة لطيفة، هل تحتاج أنثى تسهر على راحتك، كونك تعاني الوحدة، ولماذا أيضا تكره الرطوبة وترى الفن مهنة كباقي المهن وأن ترديد بعض الفنانين بأن الفن رسالة نوع من الاستبداد الخبيث على الآخرين إضافة إلى ذلك هو تحقيرا من وظائفهم ؟، اها ولماذا ترى نفسك حقيرا ونذلا ؟ أجب عن كل ذلك في خطاب وللحديث بقية، ربما تدعوني للعشاء بعد أن تقرأ خطابي، كما يترجم الرسامون في لوحاتهم الرومانسية، فنرقص سويا على أغاني الديسكو، وإن وثب حقيرا ملعونا صارخا تحت تأثير الخمر يقول : ثمة رمال كارثة متحركة ستبتلع الجميع، وقتها لن نسترقي له أو نعايره كل الاهتمام، فنرقص ونرقص، ثم نلتفت إليه على حين فجأة فنناشده بتنمية قدراته العقلية حين يقرأ علينا تجربته في الحياة، فيضحك مختصا إيانا : الحديث يزيد من وطأة الكارثة، لأن ثمة مشاكل خانقة تعطي مؤشر لكل شيء، لكن طالما أنتما مع بعضكما ستسير حياتكما بوتيرة محتشمة، ولسوف تصلان لأعلى درجات ضبط النفس حتى تؤثرا على الرأي العام، فلا تقلب مواجع، لان الحب يفتح آفاق أرحب، ربما يختصك : هيا قبلها، فيعتريني خجل الأنثى فأشدك من يدك لنذهب سويا إلى صالة الرقص فنرقص ونرقص.
 
كتبت هذه الرسائل منذ 5 سنوات، ولكن لم يستلمها صاحبها حتى الآن عبر البريد، لان كاتبتها لازالت تقراها فتبدي إعجابها بتحولاتها، استسلامها وانعزالها، حبها لله، توجيه الأسئلة إليه، وفي أحيان أخرى تقول ربما تنقصني الشجاعة لأرسلها، ما يؤكد خلونا من السمو، وبعد دقائق وربما ساعات تعتذر عن هذه النتيجة وتعد نفسها بإرسالها إذا نهضت في اليوم التالي مبكرا.