د. محمد الخشت
أستاذ فلسفة الدين - جامعة القاهرة'> رئيس جامعة القاهرة

من أكبر النماذج الفقهية التي كافحت الجمود ورفضت التعصب والمواقف المنغلقة، الإمام الشافعي الذي اختلف مذهبه الفقهي في مصر عن مذهبه القديم في العراق. ومن بين أسباب هذا الاختلاف مراعاة ظروف الزمان والمكان، وأتصور قياسا على ذلك أن الإمام الشافعي نفسه الذي يحتضنه تراب مصر وقلبها لو عاد إلى عصرنا لأصبح له فقه جديد يلائم الزمان الجديد ومتغيراته المعقدة.

ومن المعلوم أنه تلقى العلم على يد مالك، فالشافعي تلميذ مالك، ومالك نفسه تلميذ لأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل تلميذ للشافعي. لكن أي فقيه منهم لم يتجمد على مذهب أستاذه، بل جاء بمذهب مختلف، والإمام أحمد نفسه الذي يرمونه بالتشدد لا يوجد له رأي واحد في كل المسائل، بل في كثير من المسائل تجد له رأيين؛ ويجمع له البعضُ في المسألة ثلاثة آراء؛ مما يدل على وجود تنوع وتطور في الفقه الحنبلي ذاته.

ومن هنا فإن أئمة الفقه ضد التقليد والتعصب والجمود؛ لأنه ضد روح الإسلام ومقاصده التي تستهدف تحقيق المصالح الإنسانية وتراعي ظروف العصر ومتغيراته، ومن هنا أيضا استقر المجتهدون من عصور الإسلام الذهبية على بطلان الجمود والتجمد، وعلى عدم ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة. قال الحصفكي، وهو من أشهر المؤلفين الأحناف في الفقه الحنفي:" إذا سئلنا عن مذهبنا ومذهب مخالفنا قلنا وجوبا: مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، ومذهب مخالفنا خطأ يحتمل الصواب"( محمد بن إسماعيل الصنعاني، إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد). ويروى القول نفسه عن الإمام الشافعي. والكتب التي أُلفت لرد التقليد والتعصب كثيرة، مثل "أعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم؛ مما يدل على ازدراء التعصب والجمود.

لكن من جهة أخرى يتسم بعض علماء الفقه وأصوله بالتعصب والجمود؛ حيث يأخذون بالتقليد، ويرفضون مراعاة ظروف المكان والزمان، ولا يأخذون بالمصالح المرسلة والاستحسان وغيرهما. ومن أسف فإن هذا التيار المنغلق هو الذي كتبت له السيادة مع انتهاء العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، وهو الذي سيطر على الغالبية من أصحاب الصوت العالي الذين يزايدون على الدنيا والدين!

إن الجمود الفقهي والتعصب الدوجماطيقي مرض يرفضه كثير من علماء أصول الفقه الذين يراعون في تفكيرهم المصالح المرسلة، والضرورات، والاستحسان، وظروف العصر. وتعطي النصوص يقينية الثبوت وظنية الدلالة المجال لذلك إلى أبعد مدى في ضوء الشروط العلمية للتفسير واستنباط الأحكام، بل إن قاسما من النصوص التشريعية قطعية الثبوت والدلالة تعطي مجالا للاجتهاد من حيث طرق إنزالها على الواقع، فمع أنها تقدم قواعد عامة ومطلقة تصلح لكل زمان ومكان، لكن يوجد مجال للاجتهاد فيها عن طريق الاجتهاد في إنزال النص على الواقع، وطريقة إنزاله تختلف باختلاف ظروف البيئة والموقف والحالة والعوامل الداخلة فيها .. مثل : (إنّ اللّه يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين النّاس أن تحكموا بالعدل إنّ اللّه نعمّا يعظكم به إنّ اللّه كان سميعا بصيرا) (النساء:58).. (أصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا)(الحجرات: من الآية9). فالعدل قيمة مطلقة لا يختلف عليها اثنان من العقلاء، وهو مطلب لكل زمان ومكان. لكن "الاجراءات الضامنة للعدالة" يدخل عليها باستمرار تطوير يسد الثغرات التي يدخل منها المتلاعبون والفسدة والمحتالون.

وهناك مثل آخر ربما يكون أكثر واضوحا وهو "المؤلفة قلوبهم"؛ فالنبي صلّى الله عليه وسلم «أعطى المؤلفة قلوبهم من المسلمين والمشركين» ( الشوكاني، نيل الأوطار) .ولم يعطهم الخلفاء الراشدون بعد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، قال عمر رضي الله عنه: «إنا لا نعطي على الإسلام شيئا، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر». فقد انقطع هذا الصّنف بعزّة الإسلام وظهوره، وهذا مشهورٌ من مذهب مالك وأصحاب الرّأي. وقد ادّعى بعض الحنفيّة أنّ الصّحابة أجمعت على ذلك. وقال جماعةٌ من العلماء: سهمهم باق لأنّ الإمام ربّما احتاج أن يتألّف على الإسلام، وإنّما قطعهم عمر لمّا رأى من إعزاز الدّين في زمنه.

والشاهد من هذا النص القرآني أن القرآن الكريم يعطي مجالا للاجتهاد من حيث طرق إنزال النصوص على الواقع الذي يختلف باختلاف ظروف البيئة والحالة والموقف والعوامل الداخلة فيه. فلا مجال للرأي الواحد المطلق، ولا مجال للانغلاق على "دوجما"، وإنما المجال مفتوح دوما للاجتهاد الذي يدور حول "المصلحة المجتمعية" المحكومة بمعايير الشرع ومقاصده، و"الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما" كما يقول علماء أصول الفقه.

إن الجمود موقف متهافت؛ خاصة أن أصحابه يؤكدون معتقداتهم غالبا بسلطة الأمراء الدينيين أو سلطة عقل شخصي يجزم أنه يملك الحقيقة، دون أي احتمال لكونها ناقصة أو خاطئة، ودون برهان محكم من الوحي أو العقل أو الواقع، ودون مراعاة الظروف المتغيرة. ولذا فإن الجمود نتاج للتعصب، والتعصب نتاج للدوجماطيقية، والدوجماطيقية عدو التطور وعدو الحياة وعدو سنن الله في تطور الإنسانية، ولا سبيل للتجديد الديني والدنيوي دون إزاحتة "الدوجما" من العقول أولا.

وهكذا نعود مجددا إلى ضرورة تغيير "منهج التفكير" كشرط أولي مطلق نلح عليه دون كلل من أجل تأسيس عصر ديني جديد.

لمزيد من التفصيلات يمكن الرجوع إلى كتابنا (نحو تأسيس عصر ديني جديد).
نقلا عن المصري اليوم