بقلم : زهير دعيم

ليلة قمراء شطرها الاول التهَمَهُ الماضي لُقمة سائغة......الحياة أخذت تتلاشى في طُرق المدينة الصغيرة ، حتّى القطط السائبة انقطعت عن التجوال وطلب الرزق الحلال!!...شُجيرات الزيزفون تنوح على وقْعِ أنسام البحر ، في حين علا صوت بومة هرِمة  اتخذت الجذع رُكنًا .
 
  وهناك بعيدًا ، ركعت طفلة صغيرة تُصلّي ؛ طفلة ذابلة لم تتعدّ العاشرة من عمرها ، عضّها القَدَر منذ عام  فحرمها صدرًا دافئًا تتكئ عليه ، وحِضنًا رؤومًا تركِن اليه . كانت سعيدة رغم إدمان والدها على الخمر ، ولكن فقدان امّها جرحها جرحًا ينزف وينزف ولا يندمل .

   "ربّاه ، ايّها الحنّان  أسالك أن تعيد اليَّ أُمّي ، ...أبي قال لي أنها عندك ، ولكن كثيرًا ما يكذب عليّ فهو سكّير ...لا يعود الى البيت إلا في أخريات الليل ، يتركني وحيدة كئيبة  فريسة الخوف والهواجس، نهبى  الجوع ...أيه يا ربّ إنّني جائعة لا أقوى على الحركة ، أتضرّع اليكَ أن تعيد أمّي إليَّ أو أن تأخذني اليها".
  وسحّت دمعتان ساخنتان على وجنتيها الشاحبتين ، وظلّت راكعةً رافعة اليدين  وفي قلبها الصغير ألف صلاة !!

  الهزيع الأخير من الليل ، كلّ شيء كما كان ساكن  هادئ، حتّى البومة والشُجيرات والطفلة الراكعة ...شبح آتٍ من بعيد يترنّح ذات اليمين وذات اليسار ، كانّه في حفلة حفلاء ، يتأبط زجاجته المعهودة ويُغنّي بصوتٍ أجشّ نفّر البومة فنعقت ، فرماها بجملةٍ رذاذية  : "حبّة عدس تقطع النَّفّس ".

وتتنبّه الطفلة فتقوم وتشدّ نفسها الى اقرب جذع شجرة ...
 ربّاه ، ها هو عائد كعادته ، سيدخل البيت حتمًا باحثًا عنّي ليهبني عَشاءً ساخنًا ؛ عَشاءً لا يعرف الشّبع ولا الرّحمة ، عشاءً له وقع المرارة تحت أسناني .

  وابتعد الشَّبح لكن صوته المُقعقع ظلّ في المكان ، بل ترك رعدة هستيرية في قلبها الصغير .

وعادت سلمى إلى الركوع :  "الهي  ...ربّي أنني أموت جوعًا ...رغيفًا ساخنًا من لدنكَ ، كأس حليب،  بيضة...بل أعد إليَّ امّي . أعد اليّ غاليتي ...لا تقول لي لا ...أبي لم يكذب عليّ يوم اخبرني انها عندك ، لم يكن ثمِلاً وقتها عندما قال : " أنّ الله اختارها وأخذها اليه" ...نعم يا الهي سأقوم وأذهب اليها ، هناك حيث القبور ...ولكنني وانت تعلم أخاف القبور أخافها ...أموت جزعًا منها ....
 ولكن لن أخاف هذه المرّة ، ستكون انتَ معي ...صحيح ستكون معي ...أنّا مُتأكدة فقد قالت لنا المعلّمة : " ان الربّ يُحبّ الصغار".

وفي الصّباح بلّلَ قطر النّدى قبرًا وطفلة.