في مثل هذا اليوم 27 ديسمبر1958م..
لم تكف 5 مليارات م3 من المياه، كان يحجزها سد أسوان، بعد تعليته للمرة الثالثة عام 1934، في كبح جماح الفكر المصري للاستفادة من كل قطرة من حصة مصر من مياه النيل العظيم، سر حضارتها، وشريان حياتها الوحيد، التي كانت تغرق مياه فيضانه أراضي المحروسة، في الوقت الذي تشتاق فيه صحراؤها لشربة ماء.

أراضٍ غرقى وصحراء عطشى، ومياه كثيرة لا يمكن الاستفادة منها، وحرم لمنطقة الفيضان يمتد من مسجد عمرو بن العاص فى مصر القديمة بمحافظة القاهرة حتى منطقة الأهرامات بمحافظة الجيزة، كلها مشكلات شغلت ذهن الحكومة المصرية، عقب ثورة 23 يوليو 1952، وتأرجحت أفكار مواجهتها بين تعلية خزان أسوان للمرة الرابعة، أو بناء سد جديد في دول منابع النيل أو السودان، إلا أن الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، الذي طالما رفض التدخل في شئون مصر، استقر رأيه على إقامة السد، ولكن داخل حدودها، وعلى بعد 7 كيلومترات فقط من السد الأول، ليكون تحت سيطرة مصرية كاملة.

التفكير في إنشاء السد العالي:
بدأت دراسات إنشاء السد العالي في 18 أكتوبر 1952، بعدما تقدم المهندس "أدريان دانينوس"- المصري اليوناني الأصل- إلى قيادة ثورة 1952 بمشروع لبناء سد ضخم عند أسوان؛ لحجز فيضان النيل وتخزين مياهه وتوليد طاقة كهربائية منه، وفي أوائل عام 1954 عرضت شركتان ألمانيتان هندسيتان تصميمًا للمشروع، وأقرت لجنة دولية هذا التصميم في ديسمبر 1954 بعد مراجعته.

سعى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلى تحويل فكرة إنشاء السد إلى "حلم قومي"، يستحق تجنيد كل الطاقات والخبرات لوضعه موضع التنفيذ، ليحضر " السد العالي " مع الرئيس الراحل دائمًا على جدول أعماله في مناقشاته واجتماعاته مع المسئولين العرب والأجانب.

رحلة تمويل "الحلم القومي":
"حلم قومي" لا يراد له أن يتحول لكابوس مزعج، حلم تمنى المصريون تحقيقه لتقويض عنفوان تلك المياه التي تغرق أراضيهم، وتسخيرها لتوليد الكهرباء، والتوسع في الرقعة الزراعية، واستخدام شريان الحياة ذلك ليكون مصدرًا للرخاء، لا مصدرًا للتعاسة، هذه الأحلام التي أمسكت بتلابيب الحلم القومي، جعلت عبد الناصر يبدأ البحث عن مصادر لتمويل إنشاء السد، وعرض على البنك الدولي للإنشاء والتعمير، تمويل بناء السد.

أصدر البنك الدولي تقريرًا، نشره في يونيو 1955، أكد فيه سلامة مشروع بناء السد العالي ، وجاء بالتقرير، اعتماد 8 ملايين دولار لمصر؛ لتنفيذ بعض الأعمال التحضيرية للمشروع، تشمل إنشاء خطوط للسكك الحديدية، ومساكن للعاملين في الموقع.

الدكتور عبدالمنعم القيسوني وزير المالية والتجارة المصري - وقتئذ- بدأ في 16 ديسمبر 1955، سلسلة من الزيارات الدولية، أجرى خلالها العديد من المفاوضات، أسفرت عن اتفاق - من حيث المبدأ- أعلنته الخارجية الأمريكية وقتها، بأن يتولى كل من (البنك الدولي، الولايات المتحدة الأمريكية، بريطانيا)، تمويل مشروع السد العالي بتكلفة 1.3 مليار دولار.

وأعلنت الولايات المتحدة، أن تمويل السد لن يتم دفعة واحدة، ولكن على مراحل ثلاث، الأولى: تقدم الولايات المتحدة مبلغ 56 مليون دولار، وتقدم بريطانيا مبلغ 14 مليون دولار، ثم تُقدم في المرحلة الثانية قروضًا بقيمة 200 مليون دولار من البنك الدولي، بالإضافة إلى 130 مليون دولار كقرض من الولايات المتحدة الأمريكية، و80 مليون دولار قرضًا من بريطانيا، على أن يتم سداد هذه القروض كأقساط سنوية بفائدة 5% على مدى 40 عامًا.

وكان الشرط الأمريكي الثالث، أن تتحمل مصر في المرحلة الثالثة باقي المبلغ بالعملة المحلية، على أن يضاف في هذه المرحلة منحتان، الأولى، من الولايات المتحدة بقيمة 20 مليون جنيه، والثانية من بريطانيا بقيمة 5 ملايين ونصف المليون جنيه.

تمويل "الحلم" يتحول لكابوس:
العرض (الأمريكي – الإنجليزي) لتمويل بناء السد لم يكن سلسًا كإعلانه، بل فرضت الدولتان مزيدًا من السلاسل لتقييد تنفيذ المشروع، كانت الحلقة الأولى من سلاسل التقييد، هو تحويل مصر ثُلث دخلها القومي لمدة 10 سنوات لبناء السد العالي ، وتبعتها حلقات السلسلة في فرض الرقابة على المشروعات الاقتصادية الأخرى، وثم حلقات أخرى بوضع ضوابط للحد من زيادة التضخم والإنفاق الحكومي.

اكتملت أولى سلاسل تقييد الطموح المصري، وبدأ تلاحم حلقات الشروط التالية، لتقويد القرار المصري بالنمو والازدهار، حيث اشترطت أمريكا وبريطانيا أيضًا، فرض رقابة على مصروفات الحكومة المصرية، وعلى الاتفاقيات الأجنبية أو الديون الخارجية، وألا تقبل مصر قروضًا أخرى أو تعقد اتفاقيات في هذا الشأن إلا بعد موافقة البنك الدولي، وكان آخر الاشتراطات، الاحتفاظ بحق إعادة النظر في سياسة التمويل تجاه المشروع المصري في حالات الضرورة.

الشروط (الأنجلو - أمريكية)، لم تثر غضب عبدالناصر وحده، ولكنها أثارت حفيظة المصريين، وأعادت إلى أذهانهم أسلوب المراقبة، الذي فرضته أمريكا وبريطانيا على مصر، في عهد الخديو إسماعيل، عند إنشاء قناة السويس، إلا أنه رغم الغضب استقبل عبد الناصر "يوجين بلاك" رئيس البنك الدولي في مصر.

إنشاء السد العالي:
ووافق عبد الناصر - بعد مفاوضات- على أن يكون للبنك الدولي حقوق "معقولة" في تفقد الإجراءات التي ستتخذها مصر للحد من التضخم، وعُقد على إثر ذلك اتفاق تم إعلانه في 8 فبراير 1956، يقدم البنك بموجبه قرضًا قيمته 200 مليون دولار، ويتوقف تنفيذه على التوصل إلى اتفاق آخر مع لندن وواشنطن حول شروطهما التي أعلناها لتقديم المساعدة.

أمريكا تنسحب من تمويل بناء السد العالي:
وبعد 5 أشهر من إعلان الاتفاق، وفي ظهر يوم 19 يوليو 1956، أصدر المتحدث الرسمي باسم الخارجية الأمريكية "لينكولن وايت"، بيانًا أعلن فيه سحب العرض الأمريكي لتمويل مشروع السد العالي ، وأبلغ الرئيس الأمريكي -آنذاك- "جون فوستر دالاس"، السفير المصري بالولايات المتحدة، أحمد حسين، خلال إذاعة البيان، أن الولايات المتحدة لن تساعد في بناء السد العالي ، وأن بلاده قررت سحب عرضها لأن اقتصاد مصر لن يستطيع تحمل هذا المشروع.

وقال الرئيس الأمريكي أيضًا، إن الولايات المتحدة تعتقد أن من يبني السد العالي سيكسب كراهية الشعب المصري؛ لأن الأعباء المترتبة عليه ستكون مدمرة وساحقة، وأنه ليس في وسع الشعب المصري أن يتحمل عبء تنفيذ هذا المشروع الضخم.

ناصر يرد على الانسحاب الأمريكي:
ردًا على قرار الانسحاب الأمريكى من تمويل إنشاء السد العالي ، أعلن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، في 26 يوليو 1956، تأميم الشركة العالمية لقناة السويس، شركة مساهمة مصرية، وهو ما عرض مصر للعدوان الثلاثي - ليس موضعًا للحديث عنه- إلا أنه مع الضغط الغربي المستمر، والشروط المجحفة التي وضعتها تلك الدول لتمويل بناء السد، ومع استمرار الرفض المصري للتدخلات الأجنبية في شأنها الداخلي، واصلت مصر بهدوء خططها التنموية، ردًا على الانسحاب الأمريكي من تمويل السد العالي ، وقبلت التحدي، وواصلت خططها في البناء والنمو والتنمية، بالاعتماد على مواردها، وعلى ثقلها الدولي والإقليمي.

الاتحاد السوفيتي وجهة مصر البديلة:
كان المعسكر الشرقي، وجهة مصر التالية، حيث وقعت في 27 ديسمبر 1958، اتفاقية مع الاتحاد السوفيتي؛ لإقراضها 400 مليون روبل؛ لتنفيذ المرحلة الأولى من السد، وبعد عام من توقيع الاتفاقية، وقعت مصر في ديسمبر 1959، اتفاقية توزيع مياه خزان السد بين مصر والسودان، وبدأ العمل في تنفيذ المرحلة الأولى من السد في 9 يناير 1960.

مراحل بناء السد:
المرحلة الأولى من بناء السد كانت تتضمن حفر قناة التحويل والأنفاق، وتبطينها بالخرسانة المسلحة، وصب أساسات محطة الكهرباء، وبناء السد حتى منسوب 130 مترًا، ثم وقعت مصر في 27 أغسطس 1960، على الاتفاقية الثانية مع الاتحاد السوفيتي؛ لإقراضها 500 مليون روبل إضافية؛ لتمويل المرحلة الثانية من السد العالي ، وتمكنت مصر في منتصف مايو 1964 من تحويل مياه النهر إلي قناة التحويل والأنفاق، وإقفال مجرى النيل، للبدء في تخزين المياه ببحيرة السد، التي كان لابد أن يطلق عليها اسم يظل خالدًا، اسم تحمل الضغوط الغربية، واتخذ طريق الكفاح لتحقيق الحلم القومي سبيلاً، لتحمل البحيرة اسم "ناصر".

تضمنت المرحلة الثانية في بناء السد، الاستمرار في بناء "الجسد" حتى نهايته، وإنهاء محطة الكهرباء، وتركيب التوربينات وتشغيلها، وإقامة محطات المحولات وخطوط نقل الكهرباء، لتنطلق شرارة توليد الكهرباء الأولى، التي أنارت بعض القرى المصرية في أكتوبر 1967، واحتضنت بحيرة "ناصر" أولى قطرات المياه القادمة من منابع النيل عام 1968، إيذانًا ببدء تخزين المياه، وفي منتصف يوليو 1970 اكتمل صرح المشروع؛ ليتم افتتاحه رسميًا في 15 يناير 1971، ليبث التليفزيون المصري عبر شاشته، فرحة المصريين بالافتتاح الرسمي للسد العالي، الذي بلغت تكلفته 400 مليون جنيه حينها، ولو أرادت مصر بناءه اليوم فسيتكلف ما يقرب من 30 مليار جنيه...!!