بقلم : د. مجدى شحاته
 يوافق يوم 18 نوفمبر2019 مرور سبع سنوات على تجليس قداسة البابا تاوضروس الثانى على كرسى مار مرقس الرسولى .
 
ليصبح بابا المدينة العظمى الاسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية ال 118 .
 
تمر سبع سنوات والبابا يحمل على كتفية مسئوليات جسيمة وحملا ثقيلا للغاية تنوء عن حمله الجبال ، فى ظل أحداث سياسية عاصفة وازمات طائفية شرسة ، ومرحلة صعبة كان يتم فيها خطف وسرقة الوطن الى المجهول !! هذا بجانب أنواء الخدمة القوية وأمواج الرعاية العاتية ، ولكن جاء الاختيار السماوى بقداسة البابا تاوضروس الثانى  راعيا صالحا ، وخادما أمينا ، بطريركا حكيما هادئا ، قادرا على تحمل المسئوليات الصعبة مهما بدت كبيرة أو خطيرة ، يقوم برسالته بعناية من الله وارشاد الروح القدس ، بكل جدية وهدوء وحكمة بالغة وبكل الامانة والدقة والالتزام مع الحزم وبلا تردد .
 
اختاره الله ليؤكد أن عصر الآباء يمتد ويستمر ما دام روح الله يسكن الكنيسة ويعمل فيها ، ليؤكد ان مسيرة الآباء الاتقياء لن تنتهى .. وليس ثمة أسم أب من اباء الكنيسة يمكن ان نقول ان عصر الآباء قد انتهى عنده . مرت سبع سنوات من عمر حبرية قداسة البابا تاوضروس ، بابا المواقف الصعبة ، مملوءة وحافلة بالانجازات والنجاحات المتعددة الابعاد ، نسكيا ولاهوتيا وتربويا و وطنيا ومسكونيا، فضلا عن الرعاية بكل أطيافها . سبع سنوات كانت حافلة أيضا بالضيقات والازمات وسلبيات قديمة متراكمة منذ عقود طويلة . 
 
مصر تتعافى وتسير نحو الافضل . بالرغم من تواجد فلول من التطرف وخلايا نائمة من العناصر الارهابية ، الا ان هناك علامات تتجلى بكل الوضوح على أرض مصر لأول مرة فى تاريخها تشير نحو الافضل . لأول مرة ... يتم تعيين اثنين محافظين من الاقباط فى أكبر وأهم محافظات الجمهورية . كذلك ولأول مرة ... يسجل مجلس النواب المصرى فى تاريخه أعلى نسبة من الاقباط تحت قمة البرلمان فازوا بالانتخاب الشعبى  ليصل عدد النواب المسيحيين الى 36 عضوا ، بعد ان كان يتم تعيين عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة بقرار جمهورى .
 
وأيضا لأول مرة ... الرئيس عبد الفتاح السيسي يكون أول رئيس مصرى يزور ويهنئ الاقباط داخل الكاتدرائية ليلة عيد الميلاد ، ليصبح تقليدا سنويا يقوم به الرئيس ليكون قدوة طيبة لمن يكفرون تهنئة الاقباط فى اعيادهم .  لأول مرة ... يتم تشكيل اللجنة الرئيسية لتقنين الكنائس فى مصر والتى تم تشكيلها فى يناير 2017 برئاسة السيد رئيس الوزراء وعضوية ستة وزراء وممثلين ومسئولين عن الطوائف المعنية ، وقد تم الاعتراف وتقنين 1179 كنيسة ومبنى تابعا وذلك من اجمالى 3730  كنيسة ومبنى تابع لها غير مرخصة ، ويكون خلال سنتين فقط  قد تم تقنين أكثر من 32% من المطلوب ترخيصه .
 
كذلك لأول مرة فى التاريخ المصرى ، تصبح الدولة حريصة على بناء وانشاء كنائس جديدة فى المجتمعات العمرانية الجديدة ، بدون تقديم طلبات من الكنيسة ، وجاء هذا الاجراء بمثابة خطوة واعية تقلل من وجود مشكلات مستقبلية فى مسألة بناء الكنائس .
 
وفى هذا السياق قد تم تنفيذ وبناء 6 كنائس بمدينة حدائق اكتوبر وكذلك جارى تنفيذ 6 كنائس بالمدن الجديدة ، المنصورة والعلمين وغرب قنا والعبور الجديدة وشرق بور سعيد واكتوبر الجديدة وغرب اسيوط ، حدث ذلك دون ان تتقدم الكنيسة بطلبات بناء كنائس . ولأول مرة يصدرحاكم مصرى قرارا بانشاء كاتدرائية للأقباط ، ويتم افتتاحها بعد عام واحد لتصبح كاتدرائية ( ميلاد المسيح ) اكبر كاتدرائية فى الشرق ، موجودة بالعاصمة الادارية الجديدة . قداسة البابا تاوضروس الثاتى ، خادم أمين ، مصرى وطنى حتى النخاع ، وهذا  ليس غريبا عن كل الآباء البطاركة من قبله .
 
الانتماء والمواطنة سمة أصيلة فى تاريخ الحياة المسيحية فى مصر  فقدم آباء الكنيسة القبطية الارثوذكسية صور مضيئة وصفحات مشرفة من صور وصفحات الوطنية والمواطنة . ومنذ ان تولى البابا تاوضروس حمل المسئولية ، وهو يسير على نفس الدرب الذى سار فيه الآباء البطاركة من فجر التاريخ والى يومنا هذا .
 
لقد حفل التاريخ بعديد من الوقائع والاحداث تؤكد وطنية بطاركة الكنيسة القبطية واخلاصهم للوطن الذى تبارك بزيارة السيد المسيح مع العائلة المقدسة .
 
البابا بطرس السابع ( رقم 108 من البطاركة ) والملقب ببطرس الجاولى ، تصدى بكل الشجاعة ويرفض عرض قيصر روسيا ، بوضع الكنيسة القبطية المصرية تحت الحماية الروسية ، وكان السفير الروسى قد قام بزيارة البابا بطرس السابع يحمل له رسالة من قيصر روسيا يبلغه فيها بأن جلالة قيصر روسيا يعرض حماية الكنيسة القبطية المصرية .
 
وهنا سأله البابا : " هل جلالته انسانا مثلنا يأكل ويشرب وسيموت مثلنا ؟ " ورد عليه السفير بالايجاب . فقال له البابا : " كيف نقبل الحماية من شخص يموت ، ونحن فى حماية الله الذى لا يموت ؟ " . البابا كيرلس الرابع ( رقم 110 من البطاركة ) الملقب بأبو الاصلاح ، نادى وشجع على تجنيد الاقباط والخدمة العسكرية فى الجيش المصرى بعد أن أشيع كذبا بأن البابا قد طلب من الخديوى حاكم البلاد وقتها أعفاء الاقباط من الخدمة العسكرية .
 
البابا كيرلس الخامس ( رقم 112 من البطاركة ) رفض عرض الحاكم البريطانى اللورد كتشنر بأن تقوم بريطانيا بحماية الكنيسة القبطية فى مصر ، مؤكدا ان الاقباط فى حماية الله وحماية عرش مصر .
 
وكان البابا كيرلس الخامس على علاقة قوية بالزعيم الوطنى سعد زغلول عند قيام ثورة 1919 ، فجعل من الكنائس منبرا للخطابة ، وأمر قساوسة الكنيسة التعاون مع شيوخ الازهر لتوعية المصريين فى طلب الاستقلال ووحدة وادى النيل . وعند تشكيل الوفد المصرى برئاسة الزعيم سعد زغلول للسفر الى لندن فى 11 أبريل 1919 لمفاوضة الانجليز فى استقلال البلاد ، كان من بين الوفد أربعة من الاقباط المصريين وهم سينوت حنا وجورج خياط و ويصا واصف ومكرم عبيد . البابا كيرلس السادس ( البابا 116من البطاركة ) ساند الدولة المصرية بعد نكسة 1967 وأصدر قرارا يمنع الاقباط من السفر الى القدس .
 
وجاء من بعده البابا شنودة الثالث ( البابا رقم 117 من البطاركة ) ليواصل الرسالة بحظر سفر الاقباط الى القدس الا مع اخوانهم المسلمين . وقام البابا شنودة الثالث بزيارة المحاربين المصريين على جبهة القتال أثناء حرب اكتوبر ، كذلك زيارة المرضى والجرحى من رجال القوات المسلحة . كما شارك مع الرئيس السادات الاحتفال باستلام مدينة العريش بعد تحريرها عام 1979 . وقد قام البابا شنودة الثالث بزيارة تاريخية الى مخيم اليرموك عام 1997 ، أكبر المعسكرات الفلسطينية فى سوريا ، بعدها أطلقت بعض الصحف العربية على البابا شنودة الثالث اسم  ( بابا العرب ) عن جدارة واستحقاق .
 
الامر المؤسف ، انه بعد أى أعتداء ارهابى يستهدف الاقباط ، يبدأ المغرضون الهجوم على البابا ، وتنهال الاتهامات بالمهادنة والتخازل !! وكأن البابا هو المسئول فى كل ما يحدث من عمليات ارهابية تنال من الدولة المصرية والشعب المصرى كله . فماذا نقول عن أحداث ارهبية هزت البلاد على مدى عشرات السنين لم يكن البابا تاوضروس الثانى موجودا من الاساس فى موقعه الحالى . على سبيل المثال وليس الحصر : حادث كنيسة الخانكة عام 1972 ، الزاوية الحمراء 1981، أحداث الوجه القبلى فى المنيا واسيوط  وديروط وطهطا وكفر دميان والبدارى ، مرورا بالكشح 1 1999 و الكشح 2 ، أحداث مطرانية نجع حمادى ، هجمات مطروح 2010 ، كنيسة العمرانية 2010 ، كنيسة القديسين بالاسكندرية ، هجمات أطفيح 2011 هجمات امبابة 2011 ، حادث ماسبيرو !!. البطريرك ليس زعيما قوميا أو مناضلا سياسىا ، من واجبه التصادم مع الدولة التى تحارب الارهاب بكل قوة و عزم وأصرار.
 
  لكن البابا رجل دين ، أب روحى ، يعتكف ، يصلى ، ويدعو للسلام والتسامح والمحبة ، فى نفس الوقت لديه متخصصين ومسئولين فى الكنيسة يعملون ويتواصلون مع الدولة ، لهم كامل السلطات فى المطالبة بالحقوق وتقصى الحقائق فى أى حدث ارهابى ، من خلال القنوات الشرعية للدولة . البابا تاوضروس الثانى ، عندما زار البرلمان الاوروبى فى جولته الاخيرة ، وكما هو متبع سألوا قداسته عن وضع الاقباط المسيحيين فى مصر فأجاب : " تحدث مشكلات كما تحدث فى كل الدنيا ، لكننا نحاول حل تلك المشكلات فى اطار الاسرة الواحدة .
 
فنحن بلد كبير 100 مليون مواطن ، ومن المتوقع حدوث مشكلات كأى دولة فى العالم . المهم كيف نعالج تلك المشكلات ، ونحن نتقدم خطوات للمستقبل " ما الخطأ فى هذا الكلام ؟ . البابا تاوضروس الثانى ، مثل سائر البابوات السابقون يعلى دائما من شأن مصر ، رفض بشدة الاستقواء بالخارج عندما تصدى لمشروع الكونجرس الامريكى لترميم الكنائس التى دمرها وأحرقها المتطرفون فى اغسطس 2013  وقال مؤكدا : " الكنيسة لا تطلب حماية من أحد لأن الاستقواء يكون بالله وحده وليس بالخارج . "
 
هذا هو نفس النهج والوطنية الخالصة لسلفه قداسة البابا شنوده الثالث ، الذى كان يعتكف فى دير الانبا بيشوى رافعا شكواه لله . وهنا يحضرنى الاستشهاد بأحد المواقف الوطنية لقداسة البابا شنودة :  نقلا عن جريدة " اليوم السابع " فى 13 يناير 2011  والعدد 1139 فى 6  يناير 2011 فى حضور قناتى أغابى  (وسى تى فى ) حيث أشار الانبا أرميا السكرتير الشخصى للبابا شنوده الثالث ، ان قداسة البابا شنوده الثالث لا يسمح لأى طرف اجنبى بالتدخل فى شئون مصر واستغلال الاقباط كوسيلة للتدخل فى شئون مصر الداخلية ، وذلك بعد زيارة السفيرة الامريكية مارجريت سكوبى الى المقر البابوى لتقديم واجب العزاء فى ضحايا الهجوم الارهابى على كنيسة القديسين بالاسكندرية الذى سقط فيه عشرات الضحايا .
 
وقال البابا للسفيرة الامريكية : " ان الحادث الارهابى لم يستهدف المسيحيين فقط ، وانما أستهدف النسيج الاجتماعى المصرى من المسلمين والمسيحيين ، مؤكدا ان الاقباط لا يعانون من اضطهاد . وان هذه الحادثة الارهابية أثبتت ان مصر شعب واحد مسلمين ومسيحيين .
 
قداسة البابا شنودة صاحب المقولة : " اذا كانت أمريكا ستحمى الكنائس فى مصر ، فليمت الاقباط وتحيا مصر " .
 
نطلب من رب المجد ان يديم حياة أبينا البابا تاوضروس الثانى لسنين كثيرة سالمة ، راعيا شعبه بالبر والطهارة قائدا لمسيرة الخلاص ، وان نعمل معه ونؤيده  بايجابية وحب ، لا يمنع ان ندافع عن الحق ونظهره ونشهد له بقوة وفى أدب واتضاع ، وفى حكمة ، لأننا ان لم نفعل هكذا ، لا يرضى الحق عن