يوما بعد يوم .. تتضح معالم نهاية الحرب التجارية الدائرة بين الولايات المتحدة والصين، والتي دخلت شهرها الخامس عشر، حيث تابع العالم ذلك الصراع الذي سعت واشنطن إلى تحويله لحرب شاملة اقتصادية وسياسية، لكن بكين كانت تتعامل معه دائما بمنطق "لعبة شطرنج"، خصوصًا بعدما قابلت كل تحرك أمريكي بتصرفات هادئة وإلقاء كارت يعيد الأمور إلى الخانة صفر بعدما كان يتصور الجميع أنها تصب في صالح أمريكا.
 
كانت شركة "جوجل" الأمريكية العملاقة قد قررت سحب الترخيص من شركة هواوي الصينية، يوم الاثنين 20 مايو 2019، لاستخدام نظام تشغيل الأجهزة المحمولة "أندرويد"، وذلك عقب قرار الإدارة الأمريكية منع استخدام "معدات الاتصالات السلكية واللاسلكية التي تصنعها شركات أجنبية تشكل خطرًا على الأمن القومي"، واعتقد كثيرون أن هذا القرار ضربةً للشركة الصينية، حيث تتحول بموجبه هواتف هواوي لمجرد قطعة حديدية عديمة الفائدة بدون استطاعة مستخدميها الوصول لتطبيقات جوجل وتحديثات الأمان.
 
نظام تشغيل هواوي الجديد
لكن الرد الصيني كان مختلفًا، حيث يلعب التنين الصيني دائما بمخالب كامنة، ويتأني بشدة قبل أن يتخذ الرد المناسب، وتسعى بشكل هادئ لإنهاء هذه الأزمة وعدم إظهار ردود فعل عنيفة، فقد كان الكارت الأول عبارة عن تصريحات مؤسس هواوي، رن تزنيفيه، بتأكيده أن شركته كانت مستعدة لمثل هذه الأحداث وأن تقارير الأداء أظهرت أن هواوي تعكف منذ سنوات على بناء نظام تشغيل خاص بها بعيدًا عن أندرويد، وأنه كان مقررًا إطلاقه العام الماضي إلا أنه تأخر وتم تسجيله منذ عامين، ومن المنتظر ان يتم إطلاقه نهاية العام الجاري، وبذلك يكون العملاق الصيني قد خرج تماما من عباءة السيطرة الأمريكية.
 
كارت تراب الفلزات النادرة
بعدها بساعات، رد الرئيس الصيني، شي جين بينج، على تصريحات نظيره الأمريكي دونالد ترامب، بأن زار مصنع معالجة أتربة الفلزات النادرة في نفس المكان الذي انطلق منه الجيش الأحمر إلى الشمال في الثلاثينات من القرن الماضي لتحرير الأراضي الصينية المحتلة.
 
وقد كانت الزيارة رسالة مبطنة فسرتها مجلة فورين بوليسي الأمريكية بأن بكين يمكنها الإضرار بكل ركن من أركان الاقتصاد الأمريكي، من مصافي النفط إلى توربينات الرياح إلى المحركات النفاثة، عن طريق حظر صادرات التربة النادرة وقطع إمدادات المواد الضرورية التي تحتاج إليها قطاعات ضخمة من الاقتصاد الأمريكي، خصوصًا وأن واشنطن تستورد 80% من احتياجاتها منها من الصين، كما استثنتها من زيادة التعريفات الجمركية على البضائع الصينية.
 
وتهيمن الصين على عملية استخراج هذه العناصر في العالم، فوفقًا لصحيفة صينية، تبلغ حصة بكين 95% من إجمالي الإنتاج العالمي، تليها في المرتبة الثانية أستراليا والولايات المتحدة، لكنهما أنتجتا معا أقل من ثلث إنتاج الصين الذي بلغ 120 ألف طن، وفقا لمسح جيولوجي أمريكي، وتوجد في دول أخرى مثل البرازيل وفيتنام وروسيا احتياطيات من هذه العناصر النادرة، لكن تراجع أسعارها في السنوات الأخيرة جعل فتح مصادر جديدة غير مجد.
 
وأتربة الفلزات النادرة هي مجموعة من "الفلزات" تضم 17 عنصرا كيميائيا، تتميز بعدد من الخصائص الفيزيائية والكيميائية المهمة التي تؤهلها للدخول في صناعة عدد كبير من الأجهزة الإلكترونية الحديثة والمتطورة، وتستخدم هذه العناصر في صناعة النواقل الفائقة، كما تدخل في مكونات البطاريات والمغانط التي تدخل في صناعة السيارات الكهربائية، فضلا عن محطات توليد الطاقة النووية، فضلا أنها مستخدمة في الإلكترونيات الضوئية، وكل شيء بدءًا من الهواتف الذكية وأجهزة التلفزيون وحتى الكاميرات والمصابيح.
 
فيما توضح مجلة فورين بوليسي، أن الصين إذا ما قررت حرمان أمريكا من تصدير عناصر الأتربة النادرة، سوف يؤدي إلى انتكاسة تكنولوجية، ونقلت عن ريان كاستيلو المدير المؤسس لشركة آداماس إنتليجانس -وهي شركة استشارية إستراتيجية في مجال المعادن- قوله إن الصين إن ذلك سيؤثر على كل شيء "السيارات والطاقة المتجددة والدفاع والتكنولوجيا"، وتوضح المجلة أن مصافي تكرير النفط الأمريكية وحتى أدوات السمع وتوربينات الرياح والسيارات الكهربائية وغيرها تعتمد على واردات التربة النادرة.
 
ولفتت المجلة الانتباه إلى أنها لن تكون المرة الأولى التي تستخدم فيها الصين موقعها المهيمن في إمدادات التربة النادرة كأوراق ضغط جيوسياسية، ففي عام 2010 خفضت بكين بشكل حاد صادرات التربة النادرة إلى اليابان، وهي مستهلك كبير، في حين كان البلدان يتنازعان على عدد من الجزر، ومنح الحظر الصين بعض الانتصارات قصيرة الأجل، لكنه دفع الدول الأخرى إلى إعادة تقييم وتقليل اعتمادها على التربة النادرة التي تسيطر عليها بكين.
 
الأمن القومي العالمي
فيما حذر محلل سياسات الطاقة المستقل ساغاتوم ساها الذي درس هذه القضية، من أزمة أمن قومي عالمي، إذا ما قررت الصين معاقبة أمريكا بحرمانها من عناصر التربة النادرة، "سيكون إجراء صارما من شأنه أن يرفع أجراس الإنذار بشكل دائم في دوائر الأمن القومي العالمية"، خصوصًا وأن سمعة الصين كمنتج مستقر قد اهتزت من قبل وقت استخدام نفس السلاح مع اليابان.
 
الضعف الأمريكي
كما نسبت المجلة الأمريكية ذاتها إلى كاستيلو قوله "إذا قررت الصين فرض حظر على تصدير هذه المواد إلى أمريكا فستضرب أجزاء كبيرة من الاقتصاد"، مضيفا أن مجرد تهديد الصين بإغلاق صنبور المواد الصناعية الهامة يسلط الضوء على الضعف الأمريكي في هذا الجانب والذي يثير القلق بشكل متزايد لدى المحللين وواضعي السياسات في واشنطن وبكين وعواصم أخرى"، خصوصًا مع ضعف قدرة الموردون الأخرون على تعويض الغياب الصيني.
 
رب ضارة نافعة
فيما حذر خبراء اخرون، من أن الصين قد تستغل العقوبات الأمريكية، بخطط أخرى تسحب من خلالها البساط من تحت أقدام واشنطن وتتآكل الهيمنة الأمريكية على صناعة الرقائق الدقيقة وتصدرها دول العالم في الذكاء الاصطناعي، بزيادة بكين من وتيرة صناعة أشباه الموصلات المحلية والتصنيع عالي التقنية وهذا يمنحها نفوذاً هائلاً في اللعبة حول من سيملك مستقبل التكنولوجيا الفائقة.
 
ورقة سندات الخزانة
تمتلك الصين ورقة أخرى لم تستخدمها بعد في لعبة الشطرنج مع الولايات المتحدة، وهي أذون الخزانة، حيث تعتبر بكين أكبر مستثمر أجنبي في أذون الخزانة الأمريكية، حيث قال نائب مدير معهد آسيا وإفريقيا بجامعة موسكو الحكومية، أندريه كارنيف، أن تلك الورقة قد تعصف بحركة الأسهم في بورصة وول ستريت، وتؤدي إلى انهيار قيمة الدين، إذا ما قررت بكين بيع ما تملكه من سندات خزانة قامت بشرائها عقب الأزمة المالية العالمية 2008.
 
ورقة السوق الصيني
فيما تعتبر الصين التي تمثل أكبر تعداد سكاني في العالم "1.4 مليار نسمة"، أكبر سوق لعدد كبير من البضائع الأمريكية في مقدمتها أجهزة أبل وأيفون، وتحتضن منافذ علامات تجارية أمريكية مثل ماكدونالدز وكنتاكي حققت مكاسب بالمليارات الفترة الماضية، وقد تستطيع بكين تقييد وصول البضائع الأمريكية إلى السوق الصينية، وتوجيه ضربة قوية قد لا تتمكن بكين من تخطيها بسهولة والبحث عن أسواق بديلة.
 
وحسب أندريه كارنيف الذي أدلى بتصريحاته لوكالة شينخوا شبه الرسمية في الصين، فإن بكين استوعبت درس خسارة الاتحاد السوفيتي حربه الباردة مع الولايات المتحدة، واتخذت احتياطاتها بألا يتورطوا في مثل هكذا مواجهة.
 
فيما نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية مقالًا لنائبة رئيس شركة هواوي الصينية تشن لي فانج، اعتبرت فيه أن الولايات المتحدة تحتاج إلى هواوي، وأن الحظر المفروض عليها سوف يقلل من الابتكار والمنافسة ويرفع الأسعار ويمنع المستهلكين والمؤسسات الأمريكية من الحصول على أحدث تكنولوجيا الاتصال في العالم، وأنه لن يسهم في أن تصبح الشبكة الرقمية الأمريكية أكثر أمانًا.
 
وأشارت تشن لي فانج في هذا المقال الذي يحمل عنوان "الولايات المتحدة تحتاج إلى هواوي"، إلى أن شركة هواوي تشتري سنويا ما يزيد عن 11 مليار دولار أمريكي من السلع والخدمات من الولايات المتحدة، والحظر الأمريكي الشامل على معدات هواوي سيؤدي إلى خسارة الولايات المتحدة لعشرات الآلاف من وظائف التشغيل، وفي الوقت نفسه، هناك بعض شركات الاتصالات الصغيرة والمتوسطة الحجم بالولايات المتحدة تستخدم معدات هواوي حاليا، وإجبارها على استبدال هذه المعدات سيزيد من من تكاليف أدائها.
 
وقالت تشن لي فانج إن هواوي تعتبر رائدة في مجال شبكة الجيل الخامس 5G، وحظر الحكومة الأمريكية المفروض على الشركة، سيمنع مواكبة الولايات المتحدة مع بقية دول العالم في هذا المجال، مما يضر بنمو الاقتصاد الأمريكي.
 
وبالإضافة إلى ذلك، أوضحت أن الأهم هو أن الحظر لا يمكن أن يحقق الهدف الأمريكي المتمثل في أن تصبح الشبكة الرقمية الأمريكية أكثر أمانا، لأن مسئولية أمن شبكة الاتصالات على عاتق الذين يشغلون أداء الشبكة ويقومون بتزويد المعدات ويقدمون الخدمات بشكل مشترك، فإن إدراج شركة واحدة أو شركات قادمة من دولة واحدة إلى قائمة الأسماء السوداء لن يخفف المخاطر والتهديدات الواقعة على سلسلة التزويد العالمية، بل سيخفف حدة المنافسة بشكل كبير.
 
وأشار المقال إلى أنه إذا كان البيت الأبيض ووزارة التجارة يرغبان في حماية أمن الشبكة الأمريكية، فلا ينبغي أن يركزا اهتماماتهما على حظر شركات معينة، بل يجب عليهم إنشاء نهج شامل لإدارة المخاطر، وهذه هي الاستراتيجية التي اقترحتها وزارة الأمن الداخلي الأمريكية في العام الماضي.
 
واختتم المقال بأن منع شركة هواوي التي تتصدر في قطاعه سيؤدي إلى تخفيف المنافسة، وتأجيل استخدام شبكة الجيل الخامس وتقليل الابتكار وعرقلة المستهلكين والشركات الأمريكية للحصول على أحدث تكنولوجيا الاتصال في العالم، مطالبة إدارة ترامب أن ترفع حظرها عن شركة هواوي، وتعمل على إنشاء إطار شفاف لاختبار وحماية أمن شبكة الاتصالات الأمريكية.