الأقباط متحدون - «مستجير» الحكيم الطفل
أخر تحديث ٠٧:٢٦ | الثلاثاء ١٨ اغسطس ٢٠١٥ | ١٢مسرى ١٧٣١ ش | العدد ٣٦٥٦السنة التاسعه
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

«مستجير» الحكيم الطفل

د.خالد منتصر
د.خالد منتصر

«إنه الحكيم الذى يشبه الطفل» هذا هو ما قاله الشاعر وليام كاوبر عن العالم الإنجليزى نيوتن، وهى عبارة تنطبق ربما بصورة أكبر وأدق على عالمنا المصرى الكبير وصديقى الجميل د. أحمد مستجير الذى رحل عنا منذ 9 سنوات، وترك فى قلبى وقلوب محبيه جرحاً نازفاً لا يندمل، رحل- ويا للمفارقة- دون أن تجد له أرشيف استضافات تليفزيونية اللهم إلا لقاء يتيماً وحواراً أذيع فى وقت ميت فى نفس الوقت الذى كان يستضاف فيه مروجو الخرافات يومياً، وتفرد لهم الشاشات بل يدشنون قنواتهم الخاصة وبوتيكاتهم الفضائية الملاكى التى يبيعون فيها الأوهام والأساطير.

هذا الرجل الذى رغم إكليل الشعر الأبيض الذى يتوج رأسه فإن قلبه ظل يحمل شقاوة الأطفال ودهشتهم وبراءتهم. الطفل ابن الثانية والسبعين عندما كان يتسلم أرفع جائزة مصرية، لمحت غلالة دموع تغلف ابتسامته التى دوماً تنضح تفاؤلاً، أراه أنا فى أحيان كثيرة غير مبرر، وكأننى أسمعه يهمس بعد أن أنهكته المسيرة الطويلة: «ياه، معقول لسه فيه حد فى مصر بيقدّر العلم والعلماء!»، أرى قامته الطويلة التى لم تنحن إلا للرب ولميكرسكوب المعمل، أراها تنبض بالمهابة وأيضاً بالخجل، ويده القوية الضخمة التى تصافحك فتتعطر بفتوتها احتضنت الجميع بحميمية، وبشرته التى لفحتها شمس الوادى قرأ الكل عليها حروف العشق لهذا الوطن الذى مازال فى القلب، رغم أن الكثيرين من حوله قد حولوه إلى مجرد ورقة بنكنوت وصفقة سمسرة وفريسة منصب.

للحظة تجسدت ملامح الوطن فى ملامح وجهه، واختلطت تضاريس المحروسة بخطوط الزمن على لوحة جدارية ضخمة اسمها أحمد مستجير. تقف هذه القامة العملاقة أمام أسئلة الحياة فى حيرة وقلق، ولكن رغم كل شىء وأى شىء لا يفقد أبداً تواضعه الجم ودهشته الطفولية التى تجعله يردد كلمات نيوتن «لست أدرى كيف أبدو بالنسبة للعالم، ولكنى أبدو لنفسى كطفل يلهو على شاطئ البحر، يتسلى بين الحين والآخر باكتشاف حصاة أنعم أو صدفة أجمل، بينما يقف محيط الحقيقة بأكمله غامضاً غير مكتشف أمام ناظرى». ولكى يسبح د. مستجير فى محيط الحقيقة كان عليه أن يتزود بزاد يكفيه فى رحلته المنهكة المليئة بالأنواء والأمواج، وكان فى كل محطاته «الألفة» دائماً، وكما سرق برومثيوس نار المعرفة ليهديها للبشر، أعطانا الحكيم الطفل شعلة الثقافة العلمية التى نذر لها حياته، أعطاها لنا فى عشرات الآلاف من الصفحات التى خطها وترجمها قلمه وأبدعتها قريحته. أتذكر جيداً رده المفحم على أحد الأرستقراطيين عندما شتم الهندسة الوراثية وأخذ عليها أنها تنتج لنا طماطم جامدة مش زى بتاعة زمان، رد عليه العالم بحسم «إحنا عايزين نأكِّل الناس الفقرا اللى بيزيدوا بالملايين فلازم نعمل طماطم تستحمل حتى لو كان طعمها مش زى زمان»، رد إنسانى قبل أن يكون رداً علمياً، فهو يبحث ويكتشف لكى يأكل الغلابة لا لكى يجعل علمه مطية لرفاهية أغنياء الحرب وأثرياء العصر الجديد، وحتى تأملاته أخضعها لمصلحة الناس البسطاء؛ ففى إحدى سفرياته على الطريق الصحراوى إلى الإسكندرية لاحظ كثافة الغاب والبوص فى الملاحات ونموّه رغم نسبة الملح المرتفعة، فلمعت فى ذهنه فكرة زراعة القمح والأرز فى الأرض المالحة بالتهجين الخضرى مع الغاب، وحلمه بإثراء الفول البلدى بحامض الميثونين الأمينى لتقترب قيمته الغذائية من اللحم، أى أنه يريد تحويل طبلية الغلابة والحرافيش إلى سفرة البهوات والمستورين، وكان من أحلامه أيضاً إدخال جين مقاومة فيروس الالتهاب الكبدى- أكبر عدو لأبناء المحروسة- إلى الموز، وغيرها من الأحلام التى هاجسها الوحيد فقراء هذا الوطن.

وحشتنى، وأحمد الله أنك ودعتنا قبل أن تكتوى بنار حكم الإخوان وتشاهد المحروسة وقد حكمتها عصابة من سماسرة الدين، ما أحوجنى إليك اليوم يا صديقى الطفل الحكيم! هذا مقال سأكرر كتابته فى كل ذكرى لأستاذى وصديقى د. مستجير.
نقلا عن المصرى اليوم


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع