الأقباط متحدون - البـابا شــنودة...مبــدعًا
أخر تحديث ١٧:٢٥ | الثلاثاء ١٢ مايو ٢٠١٥ | ٤بشنس ١٧٣١ ش | العدد ٣٥٥٨ السنة التاسعه
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

البـابا شــنودة...مبــدعًا

البـابا شــنودة
البـابا شــنودة

مرت علينا مؤخرا الذكرى الثانية لرحيل رمز من رموز مصر الأوفياء والحكماء ألا وهو البابا شنودة الثالث، الذى لم تقف حدود دوره عند مهام التكليف والرعاية الدينية لأقباط مصر فحسب، ولكنه تجاوز ذلك كله ليصبح رمزا وطنيًا شامخـًا بمعنى الكلمة، وتجلت أدواره فى المواقف الصعبة والعصيبة.
وخاصة فى ظلال الأزمات المشتعلة للفتن الطائفية التى كانت تنفجر من حين إلى آخر بين المسلمين والأقباط، وكان البابا يملك وحده العصا السحرية، لإطفاء أى أزمة طائفية تشتعل, بحكمته وتريثه وبُعد نظره وقدرته على تهدئة النفوس وتصفيتها.

وإذا كانت وسائل الإعلام المختلفة قد أسهبت طوال الأيام الماضية فى سرد رحلة الرجل الطويلة لخدمة دينه وشعبه ووطنه منذ نشأته الأولى فى محافظة أسيوط فى العشرينيات من القرن المنصرم إلا أن جانبًا حيًا ومثاليًا وجماليًا فى رحلة الرجل لم يأخذ حقه من الإشارة والتلميح والتحليل والنقد ألا وهو الجانب الإبداعى والثقافى والفنى بصفة عامة، وهو الجانب الذى ظل حاضرًا فى رحلة الرجل إلى أخريات أيامه، وإن أخذ أشكالا ورموزًا مختلفة، فالبابا شنودة الثالث عُرف عنه عشقه للشعر العربى منذ أن كان طالبًا فى المرحلة الثانوية بمحافظة أسيوط على حد تعبيره فى مذكراته الشخصية المنشورة فى الكتب المتعلقة بسيرته وفى لقاءاته الإعلامية - وقال إنه كان متأثرًا بشعر شوقى وحافظ والبارودى وأباظة ومن بعدهم شعر شكرى والعقاد والمازنى وناجى، وبدأ فى كتابة الشعر ونسجه منذ تلك الفترة نفسها فى نهاية الثلاثينيات من القرن المنصرم، وكان يقول إن أول ديوان له كان مكتوبًا على جدران حجرته، وعلّ ذلك كان السبب الحقيقى والجوهرى لالتحاقه بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول، ورغم التحاقه بقسم الفلسفة فإن معظم وقته كان يقضيه بقسم اللغة العربية ليتعلم فنون العروض الشعرية وعلوم النحو والصرف، ودراسة الأدب وتاريخه حتى أجاد فنون العربية تمامًا، وأجاد اللغة ببراعة ، وساعده ذلك كله على تفتح ملكته الشعرية مبكرًا ، للدرجة التى دفعت الكلية فى معظم حفلاتها وندواتها إلى دعوته لإلقاء قصائده على مسمع من أساتذته وزملائه، وكان يقول إنه كان يكتب فى تلك الفترة الشعر الوطنى والروحانى والفكاهى أيضًا، وإنه جمع أول ديوان شعر كامل له ، وكتبه بخط يديه، ولم يجد للأسف دار نشر تطبعه له، فاكتفى بالاحتفاظ به مكتوبًا بخط اليد .

وما أن انتهى من دراسته الجامعية فى مطلع الخمسينيات وتعلق بحياة النسك والرهبنة، بعد أن شعر بأن الحياة التى نعيشها بكامل صراعاتها وحروبها ومشكلاتها تفتقد إلى قيمتها الحقيقية ألا وهى قيمة محبة الله والتعلق بكيان خالقها ومبدعها، والارتحال إليه، وهنا تبدأ رحلة البابا تتوجه إلى وجهة جديدة، وجهة الانعزال والتنسك والرهبنة والتى دفعته من جديد ليبدع فى السياق الشعرى على معنى روحانى جديد، يقارب ما وجدناه فى الشعر الصوفى لدى الشعراء المصريين فى فترة تاريخ الأدب المصرى الوسيط إبان العصور الفاطمية والأيوبية والمملوكية، وتبدأ روح التألق الشعرى تأخذ نصيبها من نفس البابا ومن طبيعة تكوينه الأدبى والثقافى منذ منتصف الخمسينيات.. ليكتب فى الشعر الروحانى والنسكى بصيغة ذاتية وجدانية تشعر المتلقى بأنه فى دائرة روحانية خاصة.. تحوم به بعيدًا عن دنيا الوجود، وتحلق به فى سماوات بعيدة ، ويتميز فيها البابا بصياغة القصيدة الطويلة التى تحتمل النفس الشعرى الطويل وإن كان ينسجها على بحور الشعر القصيرة والمجزوءة باعتبارها البحور التى تعكس روح المعنى بصفة مباشرة بلا التواء ولا تعقيد، ومن أشهر ما كتبه البابا فى تلك الفترة قوله فى قصيدته المعروفة باسم (ترنيمة غريب):

غريبًا عشت فى الدنيا

نزيلا مثل آبـائي

غريبـًا فـى أسـاليبـى

وأفكارى وأهوائى

غريبًا لم أجد سمعًا

أفرغ فيـه آرائـى

يموج القوم فى مرج

وفى صخب وضوضاء

وأقبع هاهنا وحدى

بقلبى الوادع النائى

تركت مفاتن الدنيا

ولا ركنـا لإيـوائى

وهنا تتبدى الغلبة للنزعة الذاتية فى أدبه ونتاجه الشعرى، وتستمر معه على درجة من درجات الإتقان فى وجهتى الموضوع والفن والبنية الشعرية المباشرة التى تتخلى كثيرا عن بعض مورفات الفن الشعرى كنزعة الخيال والتعبير بالصورة الفنية، وإن صادفتها فى ترانيم كثيرة المشاعر الاعتزالية والنسكية والدرامية .. كقوله فى قصيدة أخرى:

ورحت أجر ترحالى

بعيـدًا عن ملاهيـها

خلى القلب لا أهفو

لشـيء من أمانيـها

نزيه السمع لا أصغى

إلى ضوضاء أهليها

أطوف هاهنا وحدى

سعيدًا فى بواديها

وهكذا تستمر رحلته مع الشعر حتى بعد توليه منصب البابوية ورعاية الكنيسة الارثوزكسية فى مطلع السبعينيات، وظل ينسج الشعر على حد قوله إلى منتصف التسعينيات، وكان يكتفى بكتابته أو إنشاده فى المنتديات الدينية والأدبية، وما كتبه البابا شنودة من شعر يكفى لنشره فى أكثر من مجموعة شعرية، وهو مجموع لدى بعض الأساقفة القريبين من البابا الراحل، ومن آخر ما كتب البابا شنودة الثالث قوله:

كسبت العمر لا جاه

يشغلنى ولا مالُ

ولا بيت يعطلنــى

ولا صحب ولا آلُ

هنا فى الدير آياتُّ

تعزينى وأمثالُ

هنا لا ترهب الرهبا

نقضبان وأغلال

ومنذ منتصف التسعينيات يبدأ البابا فى الإبداع فى محور جديد من محاور الفن ألا وهو الإبداع الكتابى النثرى، خاصة بعد أن عرضت عليه جريدة الأهرام أن تمنحه مساحة للكتابة والسرد، فيبدأ البابا مع الأهرام فى رحلة إبداعية جديدة خصصها لروحانياته المعروفة عنه، ولعشقه الكتابة فى الأخلاقيات والمذاهب السلوكية والإنسانية، وهو ما حرص عليه حتى وفاته فى منتصف شهر مارس الحالى، وأصابت الأهرام حينما قررت أن تجمع مقالاته فى كتاب موحد حتى تحفظ للرجل تراثه الإبداعى والفنى ليكون عبرة للأجيال القادمة، ونتمنى أن نجد من يحرص على جمع شعر الرجل خاصة وهو وفير ليكون نبراسًا لعشاقه ومحبيه وهم يواجهون المستقبل الجديد .

نقلا عن الاهرام


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع