مقالات حول روايات الآلام في الأناجيل الأربعة
لعالِم العهد الجديد: رايموند براون
ملاحظاتٌ عامّة حول روايات الآلام
الاب جون جبرائيل الدومنيكانى
في كلّ عام خلال أسبوع الآلام، يعرّضنا الطقس الكنسيّ إلى نوع من النقد الكتابيّ من خلال اختيار روايتين مختلفتين للآلام تُقرأان خلال فترةٍ زمنيّة قصيرة. ففي أحد الشعانين أو أحد الآلام، نستمع إلى رواية الآلام حسب متّى (السنة أ) أو مرقس (السنة ب) أو لوقا (السنة ج)، بينما نسمع يوم الجمعة العظيمة كلّ عام رواية الآلام حسب يوحنّا.
«من له أذنان للسمع فليسمع» – إذ ينبغي أن نلاحظ أنّ الروايتين المقروءتين في سنةٍ معيّنة لا تقدّمان الصورة نفسها عن صلب يسوع، سواء في المحتوى أو في الرؤية اللاهوتيّة. دعونا نتأمّل في أهمّيّة هذه الملاحظة.
يُقال إنّ التقليد الإنجيليّ تشكّل "بصورةٍ عكسيّة"، بدءًا من قيامة يسوع ثمّ الرجوع إلى ميلاده. من المؤكّد أن الكرازة المسيحيّة المبكّرة ركّزت أساسًا على الصلب والقيامة. فعلى سبيل المثال، يكرّر سفر أعمال الرسل القول: «أنتم قتلتم يسوع بتعليقه، لكنّ الله أقامه من بين الأموات» (رسل 2: 32، 36؛ 5: 30-31؛ 10: 39-40).
ومع تأمّل المسيحيّين في المسيرة السابقة للمصلوب، ظهرتْ رواياتٌ عن خدمته العلنيّة، ثمّ لاحقًا، في إنجيلَي متّى ولوقا، سُردتْ قصّةُ ميلاده. وهكذا، ربّما تكون رواية الصلب قد اتّخذتْ شكلًا أساسيًّا في وقتٍ مبكّر نسبيًّا خلال عمليّة تكوين الأناجيل .
كان تشكيل مثل هذا السرد أمرًا ميسّرًا بفعل الترتيب الضروريّ للأحداث؛ إذ كان لا بدّ أن يسبق الاعتقالُ المحاكمةَ، التي كان يجب أن تسبق بدورها إصدارَ الحكم وتنفيذَ الإعدام. والنتيجة في أناجيلنا القانونيّة هي سردٌ حقيقيّ ذو حبكةٍ متطوّرة، لا يتتبّع السردُ أفعال يسوع وردود أفعاله فحسب، بل أيضًا مواقف الشخصيّات المحيطة به، مثل بطرس ويهوذا وبيلاطس. يتجلّى تأثير مصير يسوع على مختلف الأشخاص بوضوح، وتزداد دراميّة المأساة من خلال المفارقات بين الشخصيّات.
فإلى جانب يسوع البريء الذي يُدان، نجد باراباس الثوريّ الذي يُطلق سراحُه، مع كونه مذنبًا بتهمةٍ سياسيّة مماثلة لتلك التي وُجِّهتْ إلى يسوع. وإلى جانب السلطات اليهوديّة التي تستهزئ بيسوع بوصفه المسيح أو ابن الله، يظهر جنديٌّ رومانيّ يعترف به على أنّه ابن الله.
فلا عجب أن تشجّع الليتورجيا على تمثيل روايات الآلام من خلال أدوارٍ مقروءة بصوتٍ عالٍ! فكلّ رواية من روايات الآلام تشكّل في ذاتها دراما مسرحيّة بسيطة.
إن رواية يوحنّا لمحاكمة يسوع أمام بيلاطس تكاد تقدّم تعليماتٍ مسرحيّة، حيث تصوّر رؤساء الكهنة و"اليهود" متموضعين بعنايةٍ خارج دار الولاية، بينما يكون يسوع وحده في الداخل.
ويبرز تنقّل بيلاطس ذهابًا وإيابًا بين الجانبين صورة رجل يسعى لاتّخاذ موقف وسط، محاولًا التوفيق بين ما يراه نقيضين من دون أن يحسم أمره لصالح أيّ منهما.
لكن سرعان ما تنقلب الأمور، فيصبح بيلاطس، لا يسوع، هو من يقف فعليًّا في قفص الاتّهام، عالقًا بين النور والظلمة، بين الحقّ والباطل. يتحدّاه يسوع أن يصغي إلى الحقيقة (يوحنّا 19 :37)، لكن ردّه المتشكك: "ما الحقّ؟" يشكّل في جوهره اختيارًا للباطل. يحذّر يوحنّا قارئه من أنّ أحدًا لا يستطيع التهرّب من لحظة الدينونة حين يقف أمام يسوع.
أ. دعوة للمشاركة الفاعلة
يخدم تجسيد الشخصيات المختلفة في دراما الآلام هدفًا دينيًا، إذ يُطلب منّا، نحن القرّاء أو السامعين، أن نتأمّل ونتساءل: أين سيكون موقفي لو كنتُ حاضرًا في محاكمة يسوع وصلبه؟ أيّ شخصيّةٍ في السرد تعكس موقفي حقًّا؟
قد يبعث في نفسي توزيعُ سعف النخيل في الكنيسة طمأنينةً عابرة بأنّني كنتُ سأكون ضمن الجموع التي استقبلتْ يسوع بحفاوة. لكن، أليس من الأرجح أنّني كنتُ سأنضمّ للتلاميذ الذين هربوا عند الخطر، تاركين إيّاه وحيدًا؟ أو في لحظات من حياتي، ألم أجد نفسي يومًا في موقف بطرس، منكِرًا يسوع؟ أو حتّى في موقف يهوذا، خائنًا إيّاه؟ ألم أجد نفسي، مثل بيلاطس في إنجيل يوحنّا، محاولًا التهرّب من اتّخاذ قرار بين الخير والشر؟ أو، مثل بيلاطس في إنجيل متّى، متّخذًا قرارًا سيئًا ثمّ غاسلًا يديّ لأتنصّل من المسؤوليّة وأُبقي سجلّي نقيًّا؟
أو، ربّما من الأكثر احتمالًا، أنّني كنتُ سأكون من بين القادة الدينيّين الذين أدانوا يسوع؟ إذا بدا هذا الاحتمال غير مرجّح، فذلك لأنّ الكثيرين فهموا دوافع معارضي يسوع ببساطةٍ مفرطة للغاية. صحيح أنّ رواية مرقس لمحاكمة يسوع على يد رؤساء الكهنة والسنهدرين اليهود تصوّر قضاةً فاسدين ذوي عقولٍ متحيّزة مسبقًا، إلى حدّ أنّهم سعوا وراء شهادة زور ضدّ يسوع. لكن يجب أن نعترف أنّ الأناجيل تأثّرتْ بالدوافع الدفاعيّة. تذكّر تعاليم الكنيسة الكاثوليكية الرسميّة (اللجنة الحبريّة الكتابيّة عام 1964) التي تنصّ على أنّه خلال الكرازة الرسوليّة وكتابة الأناجيل، تأثرتْ ذاكرة ما حدث في حياة يسوع بالأوضاع الحياتيّة للمجتمعات المسيحيّة المحلّيّة.
ترجمتي من الأصل الإنجليزيّ:
Raymond E. Brown, A Crucified Christ in Holy Week: Essays on the Four Gospel Passion Narratives (Collegeville, MN: Liturgical Press, 1986),