كان ظهور أبوبكر البغدادى فى فيديو «صوت وصورة» بعد غياب خمس سنوات حدثاً مهماً بالنسبة للأجهزة الأمنية والمخابرات على مستوى العالم، والآن يدرس هذا الفيديو بكل تفاصيله، بالكادر واللمحة واللفتة ولحظات الصمت، و«تون» الصوت، الخبراء الآن يحاولون النفاذ من ثغرة، أو المرور من ثقب إبرة، أين تم تصوير هذا الفيديو؟ يحللون لون الستائر وعدد الوسائد وأصوات الخلفية وتخمينات ملامح الجالسين ونوع السلاح الموضوع بجانب الخليفة المزعوم.. إلخ، كل تلك التفاصيل هى شأن أمنى يحلله خبراء الأمن ورجال الأجهزة، لكن ما يهمنى، والمفروض أن يهم كل مثقف وكل مسئول وكل رجل دولة، هو تحليل الخطاب الفكرى لمن يُدعى أمير المؤمنين، والذى يعد أخطر رجل مطلوب فى العالم بجانب أيمن الظواهرى، الملاحظات كثيرة والقراءة الفكرية والذهنية والنفسية تحتاج إلى صفحات جميع الجرائد والمجلات، لكننا سنمر سريعاً على بعض اللقطات تمهيداً لدراسة متعمّقة من علماء النفس والاجتماع والسياسة:

الملاحظة الأولى شكلية، فقد بهتت الملامح وظهرت علامات الإرهاق والتعب والانكسار والهزيمة حتى على نبرة الصوت، والاعتراف بالهزيمة كان لا بد له من التحفيز بالظهور علناً حتى يلملم أشلاء التنظيم ويستعيد معنويات عصابته وميليشياته، لم يعد يخطب من على منبر فوقى، وإنما هو جالس على الأرض فى جلسة قبلية لزرع إحساس الحميمية.

هزيمة الباغوز وسقوط آخر المعاقل الداعشية فى سوريا حوّلا دفة القتال وجعلا «البغدادى» يترك الحديث عن قتال قوات نظامية إلى الحديث عن ضربات واستهدافات للمسيحيين ككتلة يستطيع الحشد ضدها، فأمثال تلك التنظيمات لا تستطيع العيش إلا بخصم، وإن لم تجده لاخترعته، هنا الخصم الجاهز للحشد والتكتل ضده هو المسيحيون الذين يسميهم الصليبيين، والذين تحدّث عنهم فى الفيديو كثيراً حتى صارت الكلمة هى أكثر الكلمات تكراراً فيه، وهذا يجعلنا نتوقع أن معظم القادم هو استهداف مسيحيين وكنائس، تلك هى الأهداف المقبلة والصيد الثمين الذى يمنحهم البروباجندا الإعلامية التى يحتاجونها لاستعادة الهيبة المفقودة والأتباع المتشككين فى النصر.

الكلمات التى وجهها لتنظيمه فى سريلانكا قطعت الشك تماماً، اعتراف واضح وصريح بالمسئولية عن تفجيرات سريلانكا التى تفاخر بالألف ضحية الذين هلكوا على حد تعبيره والذى تحدث عنهم بكل برود ولامبالاة وكأنهم دجاج فى المجزر الآلى!!، تفجيرات عشوائية فى بلد فقير استغل ترهلها الأمنى، فقط لجذب النظر والصراخ أنا موجود، وما زلت موجعاً يا كفرة.

استخدام قاموس تراثى مهجور لصناعة بشر زومبى يعيشون بأجسادهم فى القرن الحادى والعشرين وعقولهم ما زالت فى الكهوف، شفرة حماس ومعجم غريب كلماته من قبيل: «هلكوا، الصليبيين، جزيرة محمد، الطاغوت.. إلخ»، ومحاولة تخفيف بعض المصطلحات الأخرى، مثل «الانغماسيين» التى استخدمها ككلمة بديلة عن «الانتحاريين»، ولا أعرف هل السبب هو سمعة كلمة «الانتحارى» السيئة فى الوجدان الإسلامى كمرادف للكفر؟؟، لا أعرف تفسيراً قاطعاً، ولكن هذا اللفظ بالذات استرعى انتباهى كإجراء تكتيكى يتحايل على الألفاظ ويدرس مدى تأثيرها الوجدانى والعقلى، وهذا يدل على أن هناك من يدرس لهم تأثير اللفظ والميديا السيكولوجى بدقة ومنهجية.

المدهش هو تنوع الجنسيات العجيب التى صاحبت سرده لأسماء القتلة من تنظيمه الذين فقدهم فى آخر معاركه، تجد من بينهم البلجيكى والسيناوى، وهذا الأخير السيناوى بالذات يهمنا لأنه كان مخططاً شرساً لعمليات إرهابية كثيرة فى سيناء وخارجها، لكن ماذا يجعل البلجيكى والألمانى.. إلخ يتجشم عناء تلك المخاطرة، وينتمى إلى أفكار لا يعرف حتى اللغة المكتوبة بها، بل وينتحر من أجلها!!!، تلك تحتاج دراسة نفسية اجتماعية أكاديمية لحل هذا اللغز العويص.

تم حذف الفيديو من على اليوتيوب لأسباب أمنية، لكن أفكاره ورسائله لم تُحذف بعد لأسباب ثقافية واجتماعية وسياسية، ومن هنا جاءت صعوبة المواجهة وخطر عدم المواجهة الفكرية.
نقلا عن الوطن