CET 00:00:00 - 11/03/2009

مساحة رأي

بقلم: إسحق إبراهيم
إذا كان الرفض الرسمي العربي والأفريقي الشديد لقرار توقيف البشير ومحاكمته بسبب ارتكاب جرائم حرب مفهوم ومبرر، هذه الأنظمة ترتكب جرائم لا تغتفر في حق شعوبها حيث تحكم بقبضة من حديد على السلطة واتخاذ القرار وتفرض قيوداً صعبة على الحريات في دولها بداية من حريات الرأي والتعبير والحريات الدينية وانتهاء بالمشاركة السياسية، هذه الأنظمة الإستبدادية تخاف أن يأتي يوم القصاص، فهذا الحكم يهدد عروشها التي صنعتها بالقمع وذل المواطنين.
أما الموقف غير المبرر والذي يدعو للتساؤل والدهشة نابع من الحقوقيين أو مدعي حقوق الإنسان، هؤلاء يدعون أنهم نشطاء لحقوق الإنسان وأنهم يتبنون هذه المواثيق الدولية من أجل الإنسان وتقدمه وتمتعه بجميع حقوقه، وصل الأمر إلى إعلان مركز سواسية لحقوق الإنسان الذي لا يكل من المطالبة بالإفراج عن أعضاء جماعة الإخوان المسلمين المحبوسين والمحتجزين علاوة على قيام بالتنديد بالحكومة المصرية في المحافل الدولية متهماً إياها باستعمال القوة ضد الجماعة المحظورة.
هذا المركز أعتبر قرار توقيف البشير هو إجراء غير مناسب واستغلال للشرعية الدولية لتحقيق أهداف سياسية وتعويق لعملية السلام في دارفور ويهز استقرار السودان، محذراً من ازدواجية المعايير في توظيف الشرعية الدولية بينما رأى مركز الوفاق الدولي لحقوق الإنسان أن قرار المحكمة في حال تفعيله سيتسبب في إشاعة الفوضى في المنطقة العربية التي قد تمتد إلى مناطق أخرى في العالم، وقال: «نحن نرفض ازدواجية المعايير في تحقيق العدالة الدولية»، مطالباً بضرورة محاكمة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير على الجرائم التي ارتُكبت في العراق، وأضاف: كما نطالب بمحاكمة قادة إسرائيل على جرائمهم في غزة والأراضي العربية المحتلة وحاولت المنظمة العربية لحقوق الإنسان اتخاذ موقف وسط فهي تعلن أنها لا تعارض ما آلت إليه العدالة الجنائية الدولية من منطلق أنه ليس لأي شخص حصانة في ارتكاب جرائم، لكن تتفق مع موقف القوى السياسية السودانية ودعوة الاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية لتجميد قرار المحكمة لإفساح المجال لتسوية سياسية لأزمة دارفور تحقن دماء الشعب السوداني.
هذه المنظمات التي تعترض على القرار بحجتين الأولى وجود ازدواجية للمعايير والثانية أن القرار سياسي تمارس في نفس الوقت هذه الازدواجية والتسييس، فهذه المنظمات تمارس بتنديدها ورفضها قرار المحكمة الجنائية الدولية ازدواجية المعايير حيث قبلت من قبل محاكمة قادة الصرب الذين ارتكبوا جرائم حرب ضد المسلمين في البوسنة ولم يعترضوا على الطريقة غير الشرعية التي قامت بها الولايات المتحدة بالهجوم على الصرب مساندة للمسلمين، ولا على المحاكمة الاستثنائية التي عقدت لمجرمي الحرب الصربيين.
هذه المنظمات صمتت وسكتت على جرائم النظام السوداني التي يرتكبها منذ سنوات ولم تلتفت إلى معاناة أهالي دارفور أو لجرائم القتل والاغتصاب والتهجير والتشريد لمجرد أن الضحايا من جذور أفريقية، فيمت الملايين طالما أن الجاني قائد أو زعيم مسلم عربي!! 
إن رد فعل النظام السوداني وطرد منظمات الإغاثة الدولية بعد صدور القرار هو حلقة جديدة لأخذ سكان إقليم دارفور رهائن، فالنظام السوداني مسئول طبقاً للقانون الدولي عن ضمان وصول المساعدات للأشخاص الذين يحتاجون إليها، وليس هناك علاقة إطلاقاً  بين قرار التوقيف والإعانات الإنسانية.
إن قرار المحكمة لا غبار عليه لأن القائمين عليها قضاة منتخبون من الجمعية العامة للأمم المتحدة مشهود لهم دولياً بالنزاهة، فالدول المصدقة على اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية يبلغ  ١٠٧ دول من بينها ثلاث دول عربية بعد مصادقة دول جزر القمر بتاريخ ١٨ من أغسطس سنة ٢٠٠٦، وعدد الدول التي وقّعت على الاتفاقية دون أن تستكمل إجراءات التصديق بلغ ١٣٩ دولة من بينها ثلاث عشرة دولة عربية، منها مصر والسودان، بينما هناك ثمان دول عربية لم توقع حتى الآن على الاتفاقية.
كانت المحاكمات الجنائية قبل إنشاء المحكمة الجنائية الدولية تتم بطريقة استثنائية كما هو الحال في محكمة نورمبرج ومحكمة طوكيو اللتين انعقدتا عقب الحرب العالمية الثانية بإرادة مجموعة من الدول المنتصرة لمحاكمة مجرمي الحرب في دول المحور (والتي لم تكن بالطبع طرفاً في قرار إنشائها)، وكذلك الأمر في شأن محكمة يوغوسلافيا ومحكمة رواندا والمحاكم الخاصة بالبوسنة والهرسك، وكوسوفا، وتيمور الشرقية، وكمبوديا، وسيراليون، وعدد كبير من لجان التحقيق الدولية في بوليفيا والأرجنتين وتشيلي والسلفادور وجواتيمالا وزيمبابوي وأوغندا وتشاد ومقاضاة رئيسها حسين حبري أمام المحاكم البلجيكية ثم السنغالية عن جرائم وقعت في تشاد، والفلبين وسريلانكا وغيرها كثير. ووصف المستشار هشام البسطويسي هذه المحاكم بأنها مخالفة لقواعد العدالة حيث تتشكل بصفة  انتقائية ودون موافقة الجانب المتهم وبمناسبة حالة معينة، مما اثار جدلاً واسعاً حول حيادية المحكمة ونزاهتها وتسيسها.
الأمر مختلف في المحكمة الجنائية الدولية، فهناك دول اتفقت على نظام أساسي ثابت وموحد للمحكمة وقانون موحد يطبق على الجرائم التي تدرسها المحكمة ويتم انتخاب جميع قضاة المحكمة والمدعي العام من الجمعية العامة للمحكمة وهي المكونة من الدول الأطراف التي صادقت علي الاتفاقية متحدية رغبة وضغوط الولايات المتحدة وإسرائيل اللاتين رفضتا المحكمة، ويبلغ عدد قضاة المحكمة ١٨ ينتمون لثماني عشرة جنسية مختلفة بالإضافة للمدعي العام وهو أرجنتيني، وجميعهم مشهود لهم في العالم بالكفاءة والنزاهة والحياد.
يحدد نظام المحكمة طرق رفع الدعاوى أمامها التي يجب أن تقام من دولة عضو بالمحكمة أو أن يحيل مجلس الأمن القضية إلى المحكمة الجنائية كما حدث في جرائم دارفور أو أن يرفع مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان طلباً إلى الجمعية العمومية للأمم المتحدة الذي يحق له بتقديم طلب إلى المحكمة لدراسة قضية معينة.
يسأل البعض ولماذا لا يحاكم مجرمي الحرب الإسرائيليين أمام المحكمة الجنائية الدولية؟ رغم عدم وجود ارتباط بين جرائم الحرب في دارفور وجرائم العدوان الإسرائيلي إلا أن هناك عدة أسباب تحول دون محاكمة قادة إسرائيل منها أن دولة إسرائيل ليست بالمحكمة وبالتالي لا يجوز رفع دعاوى ضدها بطريقة مباشرة، وكذلك فأن الأمر يزداد صعوبة عند الحديث عن دور مجلس الأمن الذي سيرفض بشكل مؤكد لأسباب سياسية ليس هناك مجال لذكرها لكن يبقى سبب أخير ذكره المستشار البسطويسي مفاده أن سبب عدم توجيه الاتهام أو محاكمة المسئولين من رعايا الولايات المتحدة وإسرائيل ليس سببه أن المحكمة تكيل بمكيالين أو لأنها غير محايدة كما يحلو للبعض أن يزعم ولكن لأن القضاء الوطني في الدولتين مستقل بنصوص يصادقها الواقع وفقاً للمعايير الدولية لاستقلال القضاء، وهو أمر لا يستطيع أحد أن ينكره عليهما فمن أسف أن الذين سيخضعون لهذه المحاكمات الدولية سيكونون من رعايا الدول التي تدل نصوص تشريعاتها أو الواقع العملي فيها على عدم استقلال القضاء وهي دائماً دول العالم الثالث.
قرار محاكمة البشير يعد دخولاً مباشراً بالقانون الدولي إلي مرحلة العدالة في مواجهة خروقات حقوق الإنسان لا سيما في دول العالم الثالث والعربية منها، وأن القرار هو مواجهة جادة لمبدأ السيادة المطلقة الذي يتبعه حكام دول العالم الثالث والعربي مع شعوبهم.

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٤ صوت عدد التعليقات: ٢ تعليق