الأقباط متحدون - فى العديسات.. الكثير من الصمت الحرام
  • ٠٠:٤٤
  • الثلاثاء , ٢٨ مارس ٢٠١٧
English version

فى العديسات.. الكثير من الصمت الحرام

مقالات مختارة | خالد عكاشة

٤٩: ٠٨ ص +02:00 EET

الثلاثاء ٢٨ مارس ٢٠١٧

خالد عكاشة
خالد عكاشة

فى قرية «العديسات قبلى» التابعة لمركز ومدينة «الطود» بمحافظة الأقصر، جرت وقائع عديدة الأسبوع الماضى، ربما بعض من تداعياتها لم يزل يحوم فى فضاء تلك القرية النائية، حيث اشتعلت جراء تفاصيل متناقضة حول الزعم بتغيير إحدى الفتيات لديانتها من المسيحية للإسلام، على خلفية علاقة عاطفية بشاب مسلم من القرية. منطقى أن تكون لتلك الواقعة أكثر من رواية وعشرات من المشاهد، وأن يسكن فى التفاصيل الشىء ونقيضه، والساعى للوصول إلى الحقيقة لن يضيف شيئاً جدياً يمكنه من تغيير المشهد، فـ«الحقيقة» الأشمل ستظل صامتة مع سبق الإصرار والترصد.

ليس هذا بالطبع تفريطاً فى أهمية البحث عن الحقيقة، أو السعى خلفها والحرص على تثبيتها، لكن الاستغراق فى التفاصيل أحياناً قد يدفع المشهد ليبدو وكأننا فى كل مرة أمام حدث جديد مختلف، بالرغم مما نرتكبه ونراه متماثلاً تماماً مع عشرات قبله، حتى ليبدو وكأنه خيار أو قدر لا سبيل لدفعه، وكلاهما غير صحيح، أو هكذا أريد أن أصدق. وحتى أمارس فعل الإفلات من فخ تكرار زاوية الرؤية، استوقفنى فى واقعة «العديسات» مستويات الصمت فيها، وحاولت إخضاعها للتقييم. حيث يبدأ مستواها الأول من سطور مقال كهذا أكتبه أنا أو يكتبه غيرى، ربما لا يستحب كتابته حتى لا يقع تحت سيف وصفه بتأجيج الفتنة، وهذا المستوى ينسحب بالطبع على وسائل التعبير الأخرى تحت ذريعة التخفيف من الوطأة، باعتبار أن تناول الأزمة التى يعانيها المسيحيون بشكل متكرر هو من قبيل صناعة مشكلة وليس بغرض تفكيكها وقطع الطريق على تجددها.

هذا النوع من الصمت يسلم المشهد للمستوى التالى الذى يدور عادة بالقرب من موقع الحدث، يلوذ به كل المسئولين المعلق فى رقابهم الواقعة التى تتشكل أمام أعينهم بتفاصيلها المسيئة، وأشهرهم فى هذا الموقع المتكرر المحافظ ومدير الأمن ونواب البرلمان. واقعة «العديسات» شهدت متغيراً مهماً يجب إلقاء ضوء باهر عليه لكونه إيجابية تحدث للمرة الأولى، حيث وجود محافظ الأقصر فى القرية، ووضع مدير الأمن خطة تأمين وظهرت قوات الأمن بفاعلية وإيجابية، وهذا مما ساهم «جزئياً» فى محاصرة التداعيات. لكن ميراث الصمت المتعلق بقضايا المشاحنات والاعتداءات ذات المرجعية الطائفية، لم يمكنهما من إجهاض اشتعال المشهد قبل وقوعه، خاصة أن جهاز الأمن الوطنى بما يمتلكه من قدرات للإنذار المبكر، كان له أن يصل إلى تفاصيل وتوقعات مسار الأزمة، على أن يحيط التنفيذيين علماً ويضع التصور العام والدقيق، فالجهاز عادة له رؤية وتواصل جيد مع أطراف متعددة تمكنه من صياغة مخارج استباقية هادئة، فالمفاجأة هى العدو الأول الذى يضع الجميع فى خانة «رد الفعل»، وهذا كان من الضرورى أن يكون المستهدف الأول.

مستوى أكثر اتساعاً تمثل فى البرلمان الصامت، الذى لم يتقدم ممثله فى دائرة الحدث كغيرها من دوائر الأحداث السابقة، للعب دور افتراضى فى أزمة لها تعقيداتها الاجتماعية والعرفية والدينية، تحتاج لمفاتيح بعينها يمكن استخدامها وهى مما يجب توافره بمقر ممثلى الشعب. حتى مساحة التحرر من قيود التنفيذيين والتى تمكن الأعضاء المنتخبين من استخدامها، وضعها البرلمان فى أدراج الصمت، ولم يستثمرها فى لجم العبث بالسلم المجتمعى، وتجاهل أحداث الأزمة وضعها تلقائياً بعيداً عن أضواء كان من الممكن أن تفيدنا فيها ومستقبلاً. ويستمد هذا المستوى اتساعه من كونه المطبخ السياسى الكبير، الذى يجب أن تستوقفه تلك القضايا المجتمعية الخطيرة، خاصة أن قائمة هذا النوع من القضايا بها وقائع المنيا والعريش التى ما زالت عالقة، وغيرها مما تم ارتكابه وطوته الأيام. لكن الخطر الفادح الذى يمارس البرلمان الصمت بحقه أن نفوس المصريين المسيحيين لم تطوه، بل بدأت تتخوف بعمق من شرارة التداعى لأى واقعة مماثلة أو غيرها فيما أصبحت مفتوحة على جميع الاحتمالات.

فى الوقت الذى خرج فيه إمام مسجد قرية «العديسات» بحديث يهاجم فيه الواقعة ويضرب فيه الغضب الأهوج فى صميمه، عندما صرح بأنه لا يجوز الحديث عن إسلام فتاة فى مثل هذا السياق، وهذا قول شجاع ذو شأن فى مناخ التعقيد والتوازنات المقيدة للجميع، فى ذات الوقت لم يظهر الأزهر ولاذ بصمت فى غير موضعه على الإطلاق. بالرغم من المكانة الهائلة التى يحظى بها الشيخ الجليل دكتور أحمد الطيب فى الأقصر بأكملها، وكان تصديه لتلك الأزمة وصورتها المكررة المنفرة التى تتمثل فى التجمهر والغوغائية باسم الدين، وصياغة مكونات مشهد تهديد متكامل لمواطنين يقعون تحت وطأته لمجرد كونهم مسيحيين، هذا دور ومهمة كانت لتصب كالجبل فى رصيد الإمام الأكبر، وله القدرة على قطع دابرها مستقبلاً حتى لا تكون قابلة للتكرار، أتمنى أن الفرصة ما زالت قائمة مع رجل بقيمة ووزن شيخ الأزهر، يقدم فيها للوطن علاجاً من المرض المر.

مساحات أخرى من الصمت ماثلة أمامنا فى مشهد «العديسات» وغيره، قد أكون متحيراً فى نسبتها لأحد بعينه، فالسكوت على الانقلابات الأخلاقية التى تضرب موروثاتنا كل يوم، وغياب مفاهيم القيم و«العيب» الذى كان سلطة حاكمة فى شوارع قرانا ومدننا، واهتزاز وضع «الكبار» حيث كانوا رمانة ميزان قادرة على وضع أصعب الأمور فى نصابها الصحيح. هذا الغياب ليس من النوع الساكن فهو قادر على جذب ما هو أهم وأخطر كالمواطنة وسيادة القانون والسلم الأهلى، إلى مناطق الخطر التى يصبح فيها الصمت خطيئة معلقة فى رقاب الجميع. وتجليات هذا الخطر لا تمارس اليوم بحق المسيحيين وحدهم، فلها قدر لا يستهان به من تنويعات أخرى لم يتقدم أحد للحديث بشأنها حتى اليوم.
نقلا عن الوطن

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع