الأقباط متحدون - نبضات تنويرية
أخر تحديث ٠٩:٥١ | الجمعة ٢٩ مارس ٢٠١٣ | ٢٠برمهات ١٧٢٩ ش | العدد ٣٠٨٠ السنة الثامنة
إغلاق تصغير

نبضات تنويرية

في يومٍ من أيام الآحاد نزل المسيح بمدينة إشبيلية، وكان وقتها القداس قائمًا وكان الناس مشغولين بالصلاة، انتبه الناس لوجوده خارجاً فانصرفوا عن صلاتهم وركضوا ناحيته وامتلأت أعينهم بالدموع عندما رأوه، وأخذوا يتبركون به، وبدأ المسيح يشفي المرضى ويستقبل المنبوذين ويقيم الموتى، ويعيد البصر لعجوزٍ أعمى، ويقيم ابنة أرملة، وأعلن الحرّيّة للجموع، وأعلن أنّ الإنسان هو المقياس الأعلى وهو المرجع الأخير، وأن السبت جُعل لأجل الإنسان وليس الإنسان لأجل السبت، فهبّ الناس وانتفضوا من خمولهم، وتذكَّر الناس ما عمله يسوع قبلاً فهو الّذي كان يقبّل الأطفال في فلسطين، وهو الذي أعلن ديانة المحبّة وحرّيّة الروح، مرّ يسوع صامتاً بين الجمع، وهو يبتسم ابتسامةً كلّها شفقة، ومدّ يسوع يده وباركهم وكان قلبه يلتهب حبّاً، وعيونه تطلق نوراً وعِلماً وقوّةً، فأشاعَ محبّة في القلوب،
 
وكانت الفضيلة المخلِّصة تنبثق من ملامسته وحتّى من ثيابه، فابتهج الشعب واحتفوا بزيارته لهم. ولكنَّ رجل الدين القائم بالشعائر الدينية لم يعجبه الحال وغضب من انصراف الناس عن صلاتهم، فأمر الحراس بالقبض على المسيح فأخذوه وحبسوه في زنزانةٍ ضيّقة، وما أن مال النهار وحلَّ الليل حتى ذهب رجل الدين إلى المسيح (الذي كان يرتدي جلبابًا عاري الصدر وكان أيضًا حافي القدمين، بينما رجل الدين كان يرتدي حلَّته القرمزية المهندمة البهية المزيّنة بصليبه الذهبي الذي يتدلى من عنقه)، وسأله رجل الدين قائلاً: لماذا جئت لتعرقل أعمالنا؟، إنَّ ظهورك الآن بهذه الصورة البسيطة ليس في صالح الكنيسة، وكذلك فإن اهتمامك بالإنسان البائس والفقير والأعمى والعريان يتنافى مع ما نفعله اليوم، يا سيدي إن الدنيا تغيّرت وأنت الآن تصرف الناس عن العبادة والصلاة، ثم إن تعاليمك التي ناديت بها منذ عدة قرون لم تعد مناسبة لنا اليوم، فلم يعد أحد يصدق عبارتك المشهورة: بأن دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من دخول غني ملكوت السموات، فالأغنياء هم الذين أقاموا لك الكنائس وهم الذين شيَّدوا الكاتدرائيات، هذا فضلاً عن أني لا أستطيع أن أمشي عاريًا وحافيًا مثلك!! لقد منحتنا السلطان، نحن الكهنة، وليس لك أن تسترده، ونحن ليس لدينا رغبة في أن نتخلى عنه، دع السلطان والنفوذ لنا، دعنا وشأننا وعُد أنت من حيث أتيت، فإما أن تخرج من هذه البلدة بهدوء، وإما أن أحبسك في السجن بتهمة الخروج عن المسيحية!!! وتعجَّب المسيح ولم ينبس ببنت شفة، ولكنه تقدم من رجل الدين، وقبَّله، ثم توارى عن الأنظار.
 
هذا ما تخيَّله الكاتب الروسي ديستوفسكي في روايته الشهيرة "الإخوة كرامازوف"، فببراعة شديدة أراد (ديستوفسكي) أن يبرز البون الشاسع بين الرسالة السامية الحقيقية المتجسدة في شخص المسيح، وبين الخدمة الشكلية التي تفتقر إلى روح المسيح والتي كثيراً ما تكون بدوافع غير نقية، وأظهر ديستوفيسكي ما تقوم به السلطات الدينية من محاولات عبر العصور لتوظيف السماء في صراعات الأرض. واليوم ونحن نحتفل بذكرى ميلاد السيد المسيح ومجيئه إلى أرضنا، تبادرت إلى ذهني عدة تساؤلات: هل مسيحية اليوم تتطابق مع رسالة المسيح وإرساليته؟ وهل مسيحية اليوم هي ذاتها التي دعا إليها المسيح أم إنها مسيحية صنعها المنتسبون للمسيح وفق تصوراتهم وأطماعهم الشخصية؟ وماذا لو جاء المسيح اليوم في زيارة مفاجئة إلى الكنيسة؟ هل سيجد الكنيسة التي افتداها واشتراها بدمه تعيش وفق مبادئه؟ أخشى أن يقودنا الكبرياء والأنانية والمطامع وبريق السلطة والمناصب والمتكآت الأولى لأن نقول له: إرحل عنا وإلا سنحيلك إلى القضاء بتهمة ازدراء المسيحية!!
 
الكنيسة والاستفتاء
خلال الفترة الماضية زعمت بعض الأصوات الزاعقة والأبواق الناعقة أن الكنيسة وجهت المسيحيين للإدلاء بـ "لا" في الاستفتاء على الدستور، وهذه الأبواق تحدثت بلغة حادة مهددة تارة ومتوعدة تارة أخرى. وتعليقًا على هذه الأبواق، لنا بعض الملحوظات:
 
أولاً: من اللافت للنظر أن هذه الأصوات التي تهاجم الكنيسة اليوم - إما في ميكرفونات الشوارع خلال المظاهرات أو من خلال وسائل الإعلام - هي ذاتها نفس الأصوات كانت تقول بعد 25 يناير "إن الفتنة الطائفية ولَّت بلا رجعة، وإن النظام السابق هو الذي كان يثير الفتنة بين المسلمين والمسيحيين، وهو المخطط لحرق الكنائس وقتل المسيحيين، وإن مصر لم تشهد أية أحداث طائفية أو اعتداءات على كنائس وقت وجود فوضى أمنية"، فلماذا تغيّرت هذه النبرة الآن؟ هل لأن هذه المرحلة هي مرحلة التمكين؟
 
ثانيًا: منذ أحداث كنيسة العمرانية في نهاية عام 2010، والمسيحيون خرجوا من عباءة الكنيسة إلى التظاهر والاحتجاج في الشارع، ثم توالت الأحداث وذهب المسيحيون مع المسلمين إلى ميدان التحرير وكافة ميادين مصر منذ 25 يناير 2011 وحتى الآن، فإذا كان المسيحيون قد خرجوا من تحت عباءة الكنيسة ولا سيما فيما يتعلق بالشأن السياسي، فلماذا الإصرار على وضع الكنيسة في قفص الاتهام دائمًا؟
 
ثالثًا: بعد 25 يناير تم إنشاء العديد من الأحزاب سواء المدنية أو الليبرالية أوالأحزاب ذات المرجعية الدينية الإسلامية، ومن ثم فقد انخرط معظم المسيحيين في العديد من هذه الأحزاب بما فيها الأحزاب الدينية الإسلامية، وانضمام المسيحيين للأحزاب يؤكد أنهم يحددون مواقفهم من الانتخابات ومن المرشحين وفقاً لتوجهات وبرامج الأحزاب التي ينتمون لها وليس للكنيسة. وبالطبع نفس هذا الكلام ينسحب على الاستفتاء، فمن المسيحيين من ذهب وقال "لا" لأنه ينتمي لأحزاب قررت أن تقول "لا"، وهناك من المسيحيين من ذهب وقال "نعم" لأن الأحزاب التي ينتمون لها قررت أن تقول "نعم"، وأيضًا هناك العديد من المسيحيين الذين تبنوا موقف مقاطعة الاستفتاء كما فعل غيرهم من المصريين الذين رفضوا الإعلان الدستوري الذي أصدره رئيس الجمهورية، وبالطبع هناك الكثير من المسيحيين ينتمون لحزب الكنبة الذين مازالوا متفرجين على ما يحدث في الساحة السياسية المصرية. فإذا كان هذا هو موقف المسيحيين المصريين من الاستفتاء، فلماذا الإصرار على الهجوم على المؤسسة الكنسية من جانب بعض المتطرفين ودعاة الإسلام السياسي؟
 
رابعاً: إن لغة التهديد والوعيد التي يتبعها وينتهجها بعض المتعصبين ما عادت ترهب أحداً من المصريين، فالكنيسة المصرية على مدار تاريخها عانت من بعض الأنظمة السياسية التي حكمت مصر طوال القرون الماضية ولكن الكنيسة مازالت باقية صامدة شامخة ستعلن ما يمليه عليه ضميرها الوطني من منطلق قيمها المستمدة من تعاليم السيد المسيح، قيم الحب والتسامح والغفران وقبول الآخر والصلاة لأجل المسيئين والمضطهِدين.
 
خامسًا: بشأن الاستفتاء على هذا الدستور المعيب، ليست الكنيسة في حاجة لأن تحشد أحدًا كي يقول "لا" لأن الكنيسة سبق وانسحبت من الجمعية التأسيسية اعتراضًا على بعض المواد التي من شأنها أن تدمر الهوية المصرية وأن تحوّل مصر إلى دولة أبعد ما تكون عن الحداثة والتقدم، فهل غضب المتعصبون من انسحاب الكنيسة؟ هل كان يجب على الكنيسة أن تبقى لتبصم على هذا الدستور التصادمي غير التوافقي حتى يرضى عنها من يهاجمونها اليوم؟ كلا وألف كلا، إن ضمير الكنيسة الوطني يأبى الاستمرار في لجنة صاغت دستورًا معيبًا في توجهاته، مطاطًا في عباراته، متناقضًا في مواده، موغلاً في البداوة، رافضًا لمواثيق الحداثة، داعيًا للأصولية الدينية، وراعيًا لدعاة التطرف والرجعية، وعلى الرغم من انسحاب الكنيسة مع عدد كبير من المصريين الذين استشعروا خطر هذا الدستور المعيب، شجعت الكنيسة جموع المسيحيين على المشاركة الإيجابية والذهاب للاستفتاء، ولكنها تركت لكل فرد حرية الاختيار بين "نعم" أو "لا" أو "المقاطعة"، ولعل البيانات والتصريحات الصحفية التي صدرت عن الكنيسة الأرثوذكسية والكاثوليكية والإنجيلية خير دليل على هذا.
 
أود أن أقول لتلك الأبواق التي هاجمت الكنيسة، إن الكنيسة مهمتها الأساسية مهمة روحية فدعوا الكنيسة وشأنها، أما المسيحيون فها هم قد انخرطوا في الأحزاب المصرية المختلفة، ومن ثم فيا مَن تريدون إشعال الفتن بالهجوم على الكنيسة، وجّهوا هجومكم إلى الأحزاب المنافسة لكم، وجّهوا نقدكم إلى الشارع الذي اكتشف خداعكم وزيف تدينكم، وجّهوا نقدكم إلى الدعاة الأجلاء الذين تظاهروا ضد هيمنتكم واختاروا التصويت بـ "لا" لأسوأ دستور في تاريخ مصر، وجّهوا نقدكم إلى الرجال المسلمين الشرفاء الملتحين وغير الملتحين الذين رفضوا التصويت بنعم لدستور العار، ذلك الدستور الذي لا يحمي العمال والذي يقصر التأمين الصحي على غير القادرين، وجّهوا هجومكم إلى النساء المحجبات والمنقبات العاقلات الناضجات الفاهمات اللواتي اكتشفن عوار هذا الدستور ومن ثم خرجن من بيوتهن ليقلن لا لدستور القمع وكبت الحريات، لا لدستور تفتيت مصر وتقسيمها.
أيها المتعصبون، كفاكم تأجيجًا لنار فتنةٍ كنتم مؤججوها من قبل، وتغطيةً لإفلاسكم الفكري وفشلكم السياسي تريدون أن تؤججوها من بعد.
 
الكنيسة والحوار الوطني
من الغريب أن يدعو رئيس الجمهورية لحوارٍ وطني بعد إصراره على إصدار إعلان دستوري، ومن الغريب أن توافق الكنيسة على اختلاف طوائفها على المشاركة في مثل هذا الحوار، فخارج أسوار القصر كان يحدث الاعتداء على الثوار الأحرار بينما داخله تتم المراوغات والمناورات بدعوى الحوار، بالطبع نحن مع أي حوار يهدف إلى المصالحة الوطنية شريطة أن يكون الحوار جادًا وأن تكون هناك نية حقيقية لتغيير القرارات الخاطئة، أما أن يكون الحوار لمجرد الحوار وبغية خداع الرأي العام فهذا أمر مرفوض، ولاسيما وأن سنودس النيل الإنجيلي سبق له وأن أصدر بيانًا رأى فيه أن الإعلان الدستوري، الذي أصدره السيد الرئيس يتعارض مع كل المبادئ السياسية، ويدفع في اتجاه الشقاق بين أبناء الوطن، وناشدت الكنيسة الإنجيلية السيد الرئيس من منطلق مسؤوليته ووطنيته، تجميد هذا الإعلان الدستوري.
 
الكنيسة ومجلس الشورى
لست أدري ما علاقة الكنيسة بمجلس الشورى؟ ولست أدري ما معنى أن تطلب رئاسة الجمهورية من الكنيسة ترشيح أعضاء للمجلس؟ أليس هذا تكريس للدولة الدينية التي نرفضها ونندد بها؟!، إن الترشيحات للمجالس النيابية هي مهمة الأحزاب المختلفة وليست مهمة الكنيسة، أما عن اختيار الدكتور فريدي صفوت البياضي والأستاذة نادية هنري، فهما شخصيتان ممتازتان جديرتان بالتقدير والاحترام ولا خلاف على كفاءتهما، ولكن هل اتبعت الطائفة الإنجيلية مبدأ الشورى وهي تختارهما لمجلس الشورى؟ هل طغت سياسة القبيلة والأهل والعشيرة التي تتبعها الدولة على الطائفة الإنجيلية؟! إن طائفتنا الإنجيلية أكبر من أن تتبع سياسة الأهل والعشيرة، وكنيستنا أسمى من أن تُفضل أهل الثقة على أهل الخبرة.
 
نادية هنري سيدة بمائة رجل
من صميم قلبي أحيي الأستاذة نادية هنري على انسحابها من مجلس الشورى، هذا المجلس الذي يشوبه البطلان لولا تحصينه بإعلانٍ دستوري من رئيس الجمهورية، إنه مجلس يفتقر للتوافق الوطني ومن ثم فهو لا يعبّر عن التوجهات العامة للشارع المصري، حقًا إن نادية هنري امرأة بمائة رجل في زمن عزّ فيه الرجال!!
 
آخر الكلام
 
"إنّما تُبَاحَث أهلُ العقول والألباب،
 
لا البهائم والدواب."
 
عمّار البصريّ، لاهوتي عربي مسيحي من القرن التّاسع.

نقلا عن جريدة الهدى

More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع