بقلم: سهيل أحمد بهجت ـ كاليفورنيا

بعد أن يتحدث عن نظرية "فيبر" في أن المادية تنتهي بإصابة الإنسان بصدمة كونه أدرك "بفعل الاستنارة" أن المعنى النهائي للأشياء و للموجودات هو "المادة" ولا شيء غيرها، يقول المسيري:

"وقد أدرك فيبر أيضا أن الترشيد يهدد الحرية الفردية، ويحول المجتمع إلى قفص حديدي، خصوصًا وأن الفرد في المجتمع الحديث هو فرد مفتقد للمعنى، و من ثم فهو شخصية هشة من الداخل لا تشعر بالأمن و لا بالمقدرة على التجاوز، فهي لا تقف على أرضية صُلبة من المعنى" ـ العلمانية تحت المجهر ص 101.
لاحظ معي عزيزي القاريء أن المسيري يحدثنا عن فيلسوف مادّي توفي عام 1920، وقارنه بجلال أمين المعاصر لكي يوهم القاريء بأن مفهوم المادية الجامد على حاله هو الذي يسود في الغرب، بينما الحقيقة هي أن مفهوم المادية تحول كليًا منذ أيام ألبرت أينشتاين و نظريته النسبية التي حطمت الحواجز بين الروح و المادة، إن تقديم حركة التاريخ المفعمة بالتحولات وكأنها مجرد "قصة مملة" أو رواية سيئة الحبكة هو إساءة فعلية إلى العقل و الشعور الإنساني و حقه الكامل و الطبيعي في التساؤل والبحث، فانتزاع هذا الحق ـ و لا علاقة لنا هنا بمسألة السعادة و الشقاء في قياس الحداثة و التنوير لأن السعادة و الشقاء أمران نسبيان ـ هو انتزاع لحق المسيري نفسه بالتساؤل، وهذا يُذكرني بالغزالي الذي كان يشكك في مصداقية العقل استنادًا إلى بعض استنتاجاته الخاطئة، و نحن هنا لا ندعي أن العقل يمتلك ميزانًا و حكمًا غير قابل للخطأ في حكمه على الأشياء، فتحول الطاقة إلى جسم و الجسم إلى طاقة واتحاد الزمان والمكان في الزمكان، وغيرها مما لا يحصى من مجالات التحول العلمي الذي أتاحته نسبية أينشتاين فتح الباب على مصراعيه للوصول إلى نتيجة منطقية جديدة غير تلك التي تفصل بين المادة و الروح، وها هو المسيري ينقل لنا عن فيبر تساؤله حول نهاية "هذه المادية"، وهل أن الأنبياء سيعودون إلى الوجود؟

إن العلم بطبيعته دائم التحول والتغير وإذا ما توقع أحد ـ كما توقع الشيوعيون ـ بأن الإنسان سينتهي على هذا الكوكب إلى الاستقرار والسعادة المطلقة فهو مخطيء بالتأكيد، نستطيع أن نقول أن الإنسان يستطيع بناء أشياء "نسبية"، ولكنها بالتأكيد لن تقنع الإنسان بأنه حصل على السعادة النهائية، وهب أن الإنسان الحديث أخطأ عبر المادية؟ فهل يقدم الدين حلاً لقلق الإنسان؟ إن البعض يصور الله على أنه إله غاضب وغيور "كاليهود والمسلمين السنة" وبالتالي على الإنسان أن يعيش هاجس الغضب الإلهي وعذاب القبر ودخول جهنم لأتفه الأسباب، بينما يميل آخرون "كالمسيحيين والشيعة الجعفرية والإسماعيلية والعلويون" إلى وصف الله بالإله المحب الذي يعفو إلى جانب كونه عادلاً، ففي كلا النموذجين نجد صورتين مختلفتين لإله واحد، هذا عدا النظر إلى أديان العالم ككل ـ وهي مئات من العقائد والأفكار إن لم تكن بالآلاف ـ حيث سنجد اختلافًا فكريًا جذريًا حتى في مسألة الخلق، والمسيري يريد أن يربط كل شرور العالم بالعلمانية، بعد أن يوهم القاريء في بداية كل بحث أنه (محايد وموضوعي وعقلاني إلى أبعد الحدود)، فالعلمانية ارتبطت بنظره بالمادية الأحادية والتي تحكم على الوجود حكما ساذجًا بأنه ذو قوانين محددة جامدة حتمية، وهي بهذه الصيغة تسجن الإنسان في إطار محدد لا خروج منه، وهو إطار المادة نفسها، لكن الواقع نقيض كل هذا الطرح لأن الغرب نفسه طوّر من نظرته تجاه المادة وهذا العالم الذي يبدو لا نهائيًا، كما أن التراث الديني ـ و الذي كانت المادية القديمة تحتقره ـ أصبح قابلا للاستثمار الروحي والعقلي والاجتماعي، فلماذا يصرّ المسيري إذًا على أن ينعت المادية الغربية بكل التهم كانت تطابق المادية القديمة، وما قبل النسبية وتحولاتها الفكرية التي ألغت النظرية القديمة بالكامل؟ ربما للعاطفة ولمسلمات عقلية وأحكام مسبقة على الأشياء و(الرغبة) التي تتدخل في أحكامنا المنطقية دور أساسي في اتخاذه هذا المنهج.
يقول المسيري:

"وقد طور كثير من المفكرين هذه الظاهرة (أي ظاهرة الترشيد في الإطار المادي) وربطوها بظواهر حديثة أخرى، من أهمها ظاهرة الإبادة النازية، ففي كتابها أيخمان في القدس: تقرير عن تفاهة الشّر (1963) تشير حنا أرندت إلى "السّـفـّـاح" أيخمن فتبين أنه لم يكن سوى بيروقراطي تافه عادي، يؤدي ما يوكل من مهمات مثل أي موظف في بيروقراطية حديثة، فهو من منظور الترشيد المادي، لم يكن سوى نتيجة منطقية (أو ربّـما حتمية) لعملية الترشيد المتصاعدة، التي تؤدي إلى نزع السمات الشخصية و تقويض الإحساس بالمسؤولية الأخلاقية الشخصية". ـ العلمانية تحت المجهر ص 104 ـ 105.

إن كون أحزابًا و تيارات سياسية و في شتى أصقاع العالم أساؤوا إلى العقلانية والتنوير والعلم، عبر اقترافهم جرائم وتأسيس نظريات عنصرية وعرقية ـ كما حصل مع النّازية والبعث العربي ـ لا يعني بالمطلق أن هذه المصطلحات وما تحويه من معرفة و تطور هي شر وسوء وأنها سلبية، فالمسيري نفسه سيرفض تعليل البعض عن عدم إيمانهم بالله لأن هناك من ارتكب الجرائم باسم الله وهو ما سيعني أن مجرد وجود نوع من التشوه واستغلال شعار المعرفة لأغراض سياسية لا يكفي حجة لكي نقول أن العِـلم و المعرفة هي شرّ، فإذا كانت المعرفة شرّا فإن الجهالة و التمسك بالخرافة و الأسطورة هي أم الشّرور.

كما أن الفقرة التي انتقاها من كتاب حنا أرندت لا تعكس إلا المنهج الانتقائي في التعامل مع النصوص، فوجود شخصية مثل "أيخمن السّــفـّاح" لا تعكس إلا العدمية و اللا عقلانية التي امتلكها النازيون، و إذ كنا بالفعل نعتبر النازية شرّا و كذا الحال مع المادية الماركسية التوتاليتارية فإن الأنظمة التي ترتكب الجرائم باسم الله والدين هي أسوأ من تلك الأنظمة المادّيّة لأنها تضفي قدسية على أحكامها الظالمة، ومرة أخرى نكون قد تجاهلنا كل الأنظمة الإنسانية الغربية التي وقفت في وجه النازية مثل فرنسا و بريطانيا والدولة الأقوى الولايات المتحدة، فجنود هذه الدول ضحوا بأرواحهم لتحرير الإنسان من دجل وكذب لبس لبوس العلم والتنوير والحداثة، لذلك نجد أن الغرب شهد بالفعل تيارين أحدهما يتبنى النازية ومثيلاتها العنصرية وأخرى ـ وهم الأغلبية ـ يتبنون الإنسانية و الحرية و تقديس الوجود.