سامح جميل
لم يكن مشهد القمص الذى صعد منبر الأزهر، وخطب فى الحاضرين فى أحد أفلام الثلاثية لحسن الإمام من وحى خيال المخرج أو المؤلف، لكن شخصية حقيقية وهو القمص سرجيوس.

«الدين لله والوطن للجميع».. كان ذلك هو الهتاف الذى رددته الأمة، فى خضم ثورة 1919، الذى استطاع أن يجمع قلوب المصريين على قلب رجل واحد.

وللدكتور محمد عفيفى، رئيس قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة القاهرة، كتاب تضمن سيرة وافية وغنية بالتفاصيل لهذا القمص، ومما ورد فى هذا الكتاب أن البعض تعرف إلى شخصية سرجيوس لأول مرة من خلال فيلم «بين القصرين»، حيث يعرض المخرج فى نهاية الفيلم بعض المشاهد عن ثورة 1919 م، ومن هذه المشاهد يسترعى الانتباه هذا القس الذى يعتلى منبر المسجد خطيبًا للوطنية، ورمزًا للوحدة الوطنية فى لحظة نادرة ومضيئة فى سجل أيامنا المصرية،وشملت تفاصيل الكتاب الاعتقال والمنفى إلى رفح حتى نهاية الثورة

وبزغ نجم القمص مرقص سرجيوس، خطيباً مفوهاً فوق منبر الأزهر الشريف، فكان على جانب كبير من فصاحة اللسان وله أسلوبه الخاص إلى حد جعل سعد زغلول يسميه «خطيب الثورة». ناداه بهذا الاسم أمام الجماهير التى كان يذهب إليها القمص سرجيوس.

هكذا تحركت روح «سرجيوس» الثائرة لتجد نفسها فى أتون الثورة وفى المسيرة الوطنية التى توجهت إلى الأزهر الشريف مع الشيخ محمود أبوالعيون، الذى كان من كبار العلماء، واعتلى المنبر معلنا أنه مسلم وليس قبطياً، بل مجاهد فقط بين عمامة بيضاء وأخرى سوداء، ظل يعيش فى الأزهر ثلاثة أشهر كاملة يخطب فى الليل والنهار فى الجموع الزاخرة من المواطنين.

وذكرت المؤرخة إيريس حبيب المصرى، فى «قصة الكنيسة القبطية» أنه كان يخطب فى الشوارع والميادين، من نوافذ القطارات أثناء سفره وأثناء نقله إلى المنفى، وذات مرة وقف فى ميدان الأوبرا عند واجهة فندق الكونتينينتال، وأثناء خطابه تقدم نحو جندى إنجليزى شاهرا مسدسه فى وجهه، فهتف الجميع «حاسب يا بونا- حايموتك» وفى هدوء أجاب أبونا: «ومتى كنا نحن المصريين نخاف الموت؟ دعوه يرق دمائى لتروى أرض وطنى التى ارتوت بدماء آلاف الشهداء» وأمام ثباته واستمراره فى الخطابة تراجع الجندى عن قتله.

ومن مواقف القمص «سرجيوس» أنه خطب فى أحد أيام الجمع من فوق منبر جامع ابن طولون، متناوباً الخطابة مع الشيخ القاياتى فضاق بهما الإنجليز ذرعا، وأمروا بنفيهما معاً إلى مدينة «رفح» وهناك ظل معتقلاً مع العديد من الوطنيين وفى مقدمتهم محمود فهمى النقراشى، وأبوشادى المحامى والشيخ القاياتى.

وبعد فترة الاعتقال التى استمرت ثمانين يوما، أفرج عن القمص سرجيوس فلم يثنه الاعتقال عن مواصلة النضال واستمر سرجيوس على ذلك وخطب فى العديد من الجوامع والكنائس وترأس المظاهرات، ولم يكن «سرجيوس» هو الكاهن القبطى الوحيد، إذ انضم إلى الثورة بعض رجال الدين الآخرين لعل أشهرهم القمص بولس غبريال.

وبدأت بوادر وطنيته، عندما عين وكيلا لمطرانية السودان عام 1910 وكما ورد فى كتاب «الدين والسياسة فى مصر المعاصرة» للدكتور محمد عفيفى، انقسم أعضاء النادى المصرى، الذى كان يركز على وحدة المصريين فى السودان وشكل الأقباط ناديا آخر أطلقوا عليه اسم «المكتبة القبطية»، كتأكيد على انقسام عنصرى الأمة، وهنا ألقى «سرجيوس» محاضرة دينية بنادى المكتبة القبطية، بعنوان «عيشوا بسلام» داعيا إلى التآخى والمحبة بين الأقباط والمسلمين. ولم يقتصر الدور الوطنى لسرجيوس فى السودان على هذا الموقف وإنما أصدر هناك مجلة «المنارة المرقسية».

كان «سرجيوس» يندد بالاستعمار البريطانى لمصر، ويدعو إلى تضامن المسلمين مع الأقباط فى نضالهم، الأمر الذى أغضب الإنجليز وجعلهم يبعدونه عن الخرطوم ويعيدونه إلى مصر، وخاطب «سرجيوس» مدير الخرطوم البريطانى بقوله «إننى سواء كنت فى السودان أو فى مصر فإننى فى بلادى ولن أكف عن النضال وإثارة الشغب ضدكم إلى أن تتحرر بلادى من وجودكم».

ولد سرجيوس فى جرجا بسوهاج فى ١٨٨٢ وهو قس وخطيب وثائر وطنى يُعد نموذجاً حياً لمعنى الوحدة الوطنية، ولم يعبأ بمنصب ولم يخش سلطانا، وينتمى إلى أسرة توارثت «الكهنوت» والتحق بالمدرسة الإكليركية، ثم تخرج فيها عام 1903، وتمت رسامته كاهنا عام 1904 وقد رُسِّمَ قساً على بلده ملوى باسم القس ملطى سرجيوس ثم عُيِّن وكيلاً لمطرانية أسيوط فى أكتوبر ١٩٠٧.

ثم عمل وكيلا لمطرانية أسيوط 1912 ثم أرسله البطريرك لمطرانية الخرطوم وبدأ كفاحه ضد الإنجليز، وفى 5 سبتمبر 1964 توفى «سرجيوس» وبكت الجماهير التى حملته على الأعناق إلى مثواه الأخير، وأطلقت محافظة القاهرة اسم «سرجيوس» على أحد شوارع مصر الجديدة تخليداً له.

أصدر سرجيوس مجلة المنارة المرقسية فى سبتمبر ١٩١٢ فى الخرطوم عندما كان وكيلاً لمطرانيتها كمنبر لدعوة الأقباط والمسلمين إلى التلاحم الوطنى وغضب عليه الإنجليز وأمروا بعودته إلى مصر فى 24 ساعة.

وفى ثورة ١٩١٩، برز القمص سرجيوس وسط الثائرين، فكان أشبه بعبدالله النديم، إذ وهبه الله لساناً فصيحاً جعله خطيبا رفيعا مفوها إلى حد جعل سعد زغلول يطلق عليه لقب خطيب مصر أو خطيب الثورة الأول.

خطب سرجيوس فى الأزهر لأكثر من مرة معلناً أنه مصرى أولاً ومصرى ثانياً ومصرى ثالثاً، وأن الوطن لا يعرف مسلماً ولا قبطياً، بل مجاهدون فقط دون تمييز بين عمامة بيضاء وعمامة سوداء. وذُكِر عنه أنه ذات مرة وقف فى ميدان الأوبرا يخطب فى الجماهير المتزاحمة، وفى أثناء خطبته تقدم نحوه جندى إنجليزى شاهرا مسدسه فى وجهه، فهتف الجميع: «حاسب يا أبونا، حايموتك»، وفى هدوء أجاب أبونا: «ومتى كنا نحن المصريين نخاف الموت! دعوه يُرق دمائى لتروى أرض وطنى التى ارتوت بدماء آلاف الشهداء. دعوه يقتُلنى ليشهد العالم كيف يعتدى الإنجليز على رجال الدين». وأمام ثباته واستمراره فى خطابه تراجع الجندى عن قتله، مرة أخرى وقف هو والشيخ القاياتى يتناوبان الخطابة من فوق منبر جامع ابن طولون، فلما ضاق بهما الإنجليز ذرعاً أمروا بنفيهما معاً إلى رفح فى سيناء وهناك لم يتوقف عن كتابة الخطابات إلى المندوب السامى البريطانى يندد فيها بسياسة الإنجليز.

وقضى سرجيوس والشيخ القاياتى 80 يوماً فى هذا المنفى، وفضلا عن مجلة «المنارة المرقسية» أصدر عدداً كبيراً من الكتب كذلك كتب الكثير من المقالات فى مجلات غير مجلته، كان يوقع عليها باسم «يونس المهموز»، إلى أن وافته المنية فى سبتمبر ١٩٦٤، وشيعه المسلمون بالدموع، وأطلق اسمه على أحد شوارع مصر الجديدة بالقاهرة.!!