ميشيل حنا الحاج
 
قد تكون معركة منبج والشمال السوري القادمة اذا وقعت، مرشحة لأن تكشف الدور الحقيقي للرئيس أردوغان. فهل هو لاعب أم العوبة في أيدي الدول الأخرى؟

الرئيس التركي محمد طيب رجب أردوغان، كان ولسنوات، لاعبا هاما ومتميزا في بداية الأزمة السورية. فنتيجة تحالفه القوي مع السعودية وقطر ودول خليجية أخرى، فتح حدوده على مصراعيها منذ آذار 2011 ، أمام المقاتلين الخليجيين، وكذلك أمام المرتزقة الكثر القادمين من هنا وهناك، بل وأمام تدفق السلاح والمال أيضا على المقاتلين، مما حول التحرك الذي افترض فيه أو توقع له أن يكون محدودا، الى حرب دامية استمرت سبع سنوات ،ولم تزل حاصدة مئات الآلاف من القتلى والجرحى واللاجئين والمشردين.

ولكن الرغبة الأردوغانية في استثمار وتفعيل نهجه في المناورة واللعب على الحبال، اذا كان هو اللاعب الفعلي، سرعان ما تحالف مع قطر بمجرد تولي الأمير تميم مركز القيادة في الدوحة، اذ وقع معه لدى لزيارته الأولى لتركيا، وثيقة تحالف استراتيجي بين البلدين، أدت الى ظهور بداية شرخ في العلاقة القطرية السعودية، خصوصا وقد رافق تلك الوثيقة الاستراتيجية تأسيس قاعدة عسكرية في الدوحة، أضيفت الى جانب قاعدتين عسكريتين أميركيتين في قطر أيضا. وهنا ظهر فتور في العلاقة التركية والسعودية لكن دون أن يؤدي الى قطيعة كبرى أو توقف لتدفق المال والسلاح والمقاتلين عبر الحدود التركية. لكن تلك الخطوة التركية كشفت بوضوح عن وجود نوايا لدى الرئيس التركي لاتباع نهج ما غريب في عالم السياسة، وهو سياسة تبديل المواقف واستبدالها كلما لاحت الفرصة او احتاجت الضرورة لذلك الأمر، والذي أكده وعززته التطورات اللاحقة.

فمع ظهور الدولة الاسلامية في عام 2013 التي عرفت في البدابة باسم داعش، ثم سيطرتها على ثلاث محافظات عراقية في شمال العراق، وكانت الموصل أبرزها، تبلور الموقف الأميركي من المسألة الكردية بتقديم الدعم والحماية للأكراد في مواجهة حملة الدولة الاسلامية عليهم سواء في أربيل وسنجار في الاقليم العراقي، لتتبعه الهجمة الكبرى ومحاصرة عين العرب (كوباني) في الاقليم السوري، مما أدى لتدخل أميركي سافر لحماية الأكراد هنا وهناك وخصوصا في كوباني، والذي معه ظهر الشرخ في العلاقة الأميركية مع تركيا التي لم ترغب قط في تبلور الكيان الكردي كخطوة تمهد لظهور الدولة الكردية التي افترض بها أن تضم ليس اكراد العراق وسوريا وايران فحسب، بل اكراد تركيا أيضا وعددهم يزيد عن السبعة مليون كردي ان لم يكن أكثر..
وازداد التوتر في العلاقة الأميركية الكردية خصوصا بعد الانقلاب العسكري الفاشل على الرئيس التركي، واتهام أردوغان الولايات المتحدة بالوقوف وراءه بالتعاون مع عبد الفتاح غولن، المنافس الأكبر لأردوغان والمقيم لاجئا سياسيا في احدى الولايات الأميركية. فذلك قد شكل تطورا في النهج التركي، وتوجها نحو مزيد من التبدل في المواقف التركية المتشددة حتى في مواجهة أقدم وأقوى حلفائها، أي حلف شمال الأطلسي الذي تننتمي لعضويته الدولتان التركية والأميركية، بل وتقوده الولايات المتحدة ذاتها.

وتبع ذلك تطور في العلاقة التركية مع الجارة روسيا الاتحادية نتيجة قيام تركيا باسقاط طائرة عسكرية روسية، مما ادى الى غضب الرئيس بوتين وفرضه عقوبات شديدة على تركيا زادت الوضع التركي اضطرابا. وبعد فترة من الصعوبات واجههتها تركيا نتيجة العقوبات الروسية، توجه الرئيس التركي بالاعتذار الى روسيا مطالبا باعادة العلاقات بين الدولتين الى طبيعتها، فحصل ذلك فعلا، بل وسرعان ما تنامت هذه العلاقة لتبلغ درجة تكاد تبلغ حد التحالف القوي الذي انضمت اليه ايران مع مباركة سورية صامتة لهذه الخطوة التي جاءت بعد استدعاء الرئيس بشار للقوات الروسية للتدخل لحماية استقلال سوريا في مواجهة عدوان الدول الأخرى عليها خصوصا وأن تحالف المهاجمين بات يسيطر على مساحات واسعة من الاراضي السورية.

وهكذا استبدل تدريجيا التحالف التركي الامريكي الى تحالف تركي روسي ايراني. ومن هنا بدأ التساؤل ازاء هذه التبدلات المتكررة والمتناقضة أحيانا في المواقف التركية، ان كان الرئيس التركي هو الذي يتلاعب بالآخرين أم هم يتلاعبون به ويستدرجونه الى ما لا يرغب به او قد يندم عليه لاحقا؟

فمن الذي يبادر الى اجراء هذه التبديلات او التعديلات المتكررة بين الفترة والأخرى في الموقف التركي؟
مثلا من اقترح مشروع التحالف الاستراتيجي التركي القطري اضافة الى اقامة قاهعدة تركية صغيرة قرب الدوحة. فهذه الاتفاقية قد أدت ادى الى تعكير العلاقات القطرية السعودية، وكذلك العلاقة التركية السعودية التي بلغت ذروتها اثر اغتيال جمال خاشوجي على الاراضي التركية؟ هل كان الأمير تميم ام
الرئيس اردوغان؟

يرجح البعض انه كان الامير تميم الذي كان حديث الجلوس على مقعد الامارة، فكان يريد تعزيز موقفه على ضوء مخاوف لديه من وجود مطامع لدى السعودية في الهيمنة على الجارة قطر، خصوصا وأن قتالا كان قد وقع فعلا بينهما في الثمانينات وظل القطريون يخشون تكراره رغم وجود قاعدة اميركية على أراضيهم هي قاعدة عيديد، لكنها قاعدة لها ارتباطاتها أيضا مع الصديقة الأخرى وهي السعودية، وبالتالي لن تبادر الى معاداة السعودية من أجل الدفاع عن قطر. ومن هنا وجد الامير تميم ضرورة لايجاد قاعدة عسكرية أخرى على اراضيه يضمن ولاءها لقطر دون وجود ولاء محدد لها نحو السعودية. وهكذا يبدو ان القاعة العسكرية التركية رغم صغر حجمها، كانت الهدف المبتغى من تلك الاتفاقية الاستراتيجية التركية القطرية، مما يوحي بأن الرئيس أردوغان في تلك المرحلة، قد تم التلاعب به واستدراجه لشيء ما ربما لم يكن قد رغب فيه رغم اغراء القاعدة العسكرية التركية على الاراضي القطرية والتي قد تعزز وجود قاعدة او شبه قاعدة صغيرة في شمال العراق متواجدة رغم انف العراقيين الذي طالبوا تركيا مرارا دون جدوى بسحب قواتهم منها. فربما كان سلوكه ذاك نتيجة حلمه الكبير باعتبار القاعدة الجديدة، خطوة نحو حلمه الكبير باعادة تأسيس تركيا العثمانية.

ولكن اذا كان قد بات يجابه خلافا مع السعودية نتيجة (دفشة ما) من امير قطر، فان تبدل موقفه مع الولايات المتحدة وتحوله من حليف لها الى عدو ولو بدرجة صغرى في المراحل الاولى ، فقد كان مرده حماية الأمركيين للأكراد الطامعين للانفصال عن تركيا، والذين تدخل تركيا بين فترة وأخرى في حالات من العداء والفتال الدموي كما كان جاريا فعلا آنئذ.

وتعززت حالة العداء تلك لدى قيام الولايات المتحدة بتدريب وتسليح الأكمراد وتزويدهم بالخبراء العسكريين الذين أسسوا عندئذ ما اسموه بجيش سوريا الدمقراطي المكون بمجمله من الأكراد مع وجود بينهم لمسة صغيرة تمويهية من المسيحيين والتركمان. فهذا مما زاد في النار اشتعالا بين الدولتين وبات يهدد بخروج تركيا من حلف شمال الاطلسي الذي توجد على الاراضي التركية اكبر قواعده هي قاعدة انجرليك، والتي قامت تركيا في اغلاقها اكثر من مرة في وجه الطائرات الاميركية خلال مرحلة مقاتلة الاميركيين للدولة الاسلامية التي حاصرت كوباني، بل ومنعت الاميركيين من استخدام القاعدة لايصال الدواء والغذاء والذخيرة للاكراد المحاصرين في كوباني المعروفة سوريا باسم عين العرب.

ومن هنا يبدو ان الصداقة بل التحالف الاميركي الكردي، هو الذي اشعل العداء التركي الاميركي، اي لم يكن نتيجة خطأ من الجانب التركي او رغبة منها في اشعال فتيل ذاك العداء. فالاعتقاد الاميركي بان حليفتهم تركيا ستظل طوع بنانهم، ولن تعترض كثيرا على بعض الدعم الذي تقدمه اميركا للاكراد، باعتباره دعما يراد به حماية الاكراد من خطر الدولة الاسلامية فحسب، وليس من الخطر التركي الذي لم تر فيه خطرا حقيقيا عليهم باعتبار أن المشاكل بينهما يمكن حلها لاحقا بالتفاوض الودي.

والامر ذاته ينطبق على حالة التحالف المفاجىء بين تركيا وروسيا والذي شكل هدية من السماء للرئيس بوتين الذي لم يتوقع الوصول الى تلك النتيجة كثمرة للعقوبات التي فرضها على تركيا نتيجة اسقاطها للطائرة الروسية. لكن ما ادى لتلك النتيجة على ارض الواقع، كانت حالة العداء المستفحلة تدريبجيا بيبن اميركا واردوغان خصوصا بعد محاولة الانقلاب الفاشلة على الرئيس التركي الذي اتهم الرئيس أردوغان الولايات المتحدة بالضلوع بها.
وبلغت الازمة ذروتها عندما طالب اردوغان الاميركيين بسحب جيش سوريا الدمقراطي من منبج ووقف تقديم العون لهم، ووجوب انسحابهم من مدبنة منبج الشمالية ومن كل الشمال السوري القريب من الحدود السورية العراقية والتركية. فالولايات المتحدة ظلت ترفض الاستجابة الى الطلب التركي، الى أن فاجأ الرئيس ترامب الجميع باعلان توجهه الى سحب القوات الاميركية من سوريا. وقيل بان ذاك القرار كان نتيجة اتفاق بين الرئيسين ترامب واردوغان خلال مكالمة هاتفية بينهما ساعية لرأب الصدع بين البلدين، تجنبا للمواجهة العسكريبة التي باتت محتملة، خصوصا وأن اردوغان اخذ يهدد باقتحام منبج وكل الشمال السوري بعد أيام قليلة ليطرد منه الاكراد وجيشسةؤيا الد منه.

ويبدو ان الرئيس التركي الى الآن قد عول كثيرا على وعود ترامب، متناسيا انها وعود مؤقتة ولمرحلة ما تسعى لتجاوز ازمة ربما باتت حالة، لكن دون التخلي الفعلي عن استراتجية اميركية معتمدة منذ عقود لتقديم الدعم للاكراد من اجل الحصول على دولتهم الخاصة، هم وأقليات أخرى في المنطقة كالامازيق والبربر والطوارق وغيرهم من الاقليات في هذه المنطقة، بهدف تشكيل الشرق الاوسط الجديد. فهذه استراتيجبة اميركية معتمدة منذ فترة طويلة، وقد تؤجلها الولايات المتحدة لبعض الوقت، لكنها لن تلغها تماما من قائمة استراتيجياتها المعتمدة.

ولكن هل كان اردوغان يبارك اتفاقية كهذه تؤدي الى سحب القوات الاميركية من المنطقة بغية استعادة القوة والزخم للتحالف الاميركي التركي، دون أن يشترط الرئيس الاميركي الانسحاب التركي من التحالف التركي الروسي الايراني، وخصوصا مع وجود توجه ترامبي سعودي للشروع في حرب ضد ايران، تجعل من الحاجة لاستخدام قاعدة انجرليك (التي حرموا من استخدامها خلال معركة كوباني) امرا ضروريا وملحا، فلا مناص اذن من استخدامها في هذه المرة، وبالنتيجة بات على الرئيس الأميركي أن يضع جانبا ولو الىى حين، تلك الاستراتيجية الاساسية المتعلقة بالأكراد وذلك استرضاء لغريمه الرئيس أردوغان.

وبطبيعة الحال كان اردوغان يأخذ بعين الاعتبار الوجود الروسي الفعلي على الاراضي السورية والتواجد الايراني ايضا رغم تحفظه على هذا الوجود الايراني. فهل يمضي اردوغان قدما بهذا الاتفاق رغم شكوكه ان وجدت، بالنوايا الاميركية، وبكونها تسعى لمرحلة توقف مؤقتة في تقديم الدعم للاكراد نتيحة الحاجة الماسة لاستخدام قاعدة انجرليك اذا نشبىت الحرب مع ايران؟ اضافة الى حاجة تركية لايجاد شرخ ما في التحالف التركي الروسي؟
فمسقبل المعركة في منبج وفي الشمال السوري اذا وقعت معركة ما، مع أن الأنباء تقول أن تحركا بهذا الاتجاه قد بدأ فعلا بتدفق الجيش السوري على منبج، رغم تهديدات من اردوغان، وتوجهه بالتالي نحو فرض هيمنته عليها مقابل اعلان الاكراد وجيش سوريا الدمقراطي عن ولائهم لسوريا في أدنى الحالات. واذا ما تم تجنب وقوعها نتيجة الاتسحاب الأميركي الصوري(أو الرضائي) من الشمال، فانها سوف تؤدي عمليا زفي ادنى الحىالات لتعزيز وجود الارهاب في محافظة ادلب، حيث تتواجد جبهة النصرة التي كانت ويرجح أنها ما زالت منتمية لتنظيم القاعدة رغم استبدال اسمها، وبالتالي ستزداد قوة وتناميا مع مضي الوقت خصوصا مع انشغال الأخرين عنها بالصراع فيما بينهم، معززة بالتالي وجود الارهاب الذي يدعي ترامب ان قواته قد قضت عليه الى غير رجعة، مستخدما هذا القول او الادعاء لتبرير الانسحاب الاميركي من سوريا....

هذا كله سوف يضع النقاط على الحروف لتحديد مدى ذكاء الرئيس اردوغان، والى ما اذا كان بحق لاعبا في مسرح السياسة ام العوبة بايدى بعض دولها والدول الكبرى، علما ان همسات تدور في الخفاء عن وجود صفقة ما سرية بن اميركا وتركيا، أو بين تركيا والسعودية، هدفها لملمة الفضائح السعودية الناتجة عن فضيحة اغتيال الخاشقجي. وقد يكون الانسحاب الاميركي المفاجىء جزءا من هذه الصفقة.
قضية شائكة اذن ومعقدة الى حد مىا، ولذا بات علينا ان نراقب وننتظر.
م