ميشيل حنا الحاج
ماذا يجري في شمال سوريا؟ أليس هو قتال بين قوات تركية، تشاركها قوات معارضة سورية دربتها وسلحتها تركيا، وذلك ضد قوات في غالبيتها كردية، دربتها وسلحتها  قوات أميركية، بل ويرافقها خبراء أميركيون، وتعزز نشاطها معلومات استخبارية توفرها لها أقمار أميركا الاصطناعية وغيرها من وسائل المراقبة الأميركية؟   فكأني بالولايات المتحدة قد تناست بأنها قائدة حلف شمال الأطلسي، كما تناست، هي من ناحية وتركيا من ناحية أخرى، أن كليهما عضوين في  حلف شمال الأطلسي، بحيث انتهى الأمر الى اشتباك قوتين أطلسيتين مع بعضهما البعض.
 
ولكن ظاهرة التعارض بين مصلحتين اطلسيتين، لم تقتصر على تعارض المصالح بين الولايات المتحدة وتركيا  في الشمال السوري، اذ تمثل تضارب المصالح أيضا في قضية تتعلق بدول الخليج العربي؟؟
 
فالخلاف الناشب بين بعض الدول الخليجية وفي مقدمتها السعودية ودولة قطر، افرز اضطرار قطر لتفعيل معاهدة الدفاع الاستراتيجية بينها وبين تركيا، واستدعاء قوات تركية  لتعزيز القاعدة التركية في قطر، وهي القاعدة التي كان للقوات التركية فيها تواجد رمزي في السابق، ولكنه بات الأن تواجد واسع وملموس رغم وجود قاعدة أميركية في قطر هي قاعدة عيديد، التي مهمتها الأساسية حماية المصالح الأميركية في المنطقة، ولكن أيضا حماية حلفائها في المنطقة ومن أبرزهم دول الخليج، وقطر بطبيعة الحال بينهم، بل هي الأكثر اعتمادا على حمايتهم لكون قاعدتهم الكبرى في المنطقة، قاعدة عيديد، مقامة على أراضيها، تماما كما أن قاعدة أنجرليك، قاعدة حلف الأطلسي الكبرى، مقامة على الأراضي التركية.
 
وهنا تبلور التضارب في المصالح بالنسبة لقاعدة انجرليك في تركيا، وقاعدة عيديد في قطر، حيث تأكد للأتراك أن الهدف الرئيسي للولايات المتحدة في هذه المرحلة، هو حماية الأكراد وحماية مصالحهم، ولو على حساب المصالح التركية التي تتناقض مع الرغبة الأميركية في تبلور وتعزيز التواجد والتنامي الكردي ولو على حساب المصالح التركية.
 
فللوهلة الأولى، أعتقد الأتراك أن الدعم الأميركي للأكراد، هو تنفيذ لاستراتيجية خاصة بالرئيس باراك أوباما والحزب الدمقراطي الأميركي. لكن بعد رحيل أوباما، وحلول ترامب محله، لاحظ الأتراك أن الاستراتيجية ذاتها نحو الأكراد، قد ظلت قائمة بل وازدادت تناميا.  وهنا رجحت تركيا أن الأمر يمثل استراتيجية أميركية ثابتة ومعتمدة، وهي استراتيجية الشرق الأوسط الجديد لكن بثوب جديد، لا يعتمد بعد الآن على تفكيك دول المنطقة الى دويلات خلافا لرغبات شعوبها ودون استفتائهم كما تشكل مقتضيات ومبادىء حقوق الانسان، اذ أنها بموجب مخططتها الجديد، تعتمد مبادىء حقوق الانسان في تقرير مصيره، من أجل تحقيق أهدافها، وذلك بتقوية الأقليات في المنطقة وتشجيعها على المطالبة بالاستقلال تناسقا مع حق الانسان في تقرير مصيره. وها هي قد بدأت بالأكراد، مما يتناقض مع المصلحة التركية والسورية والعراقية والايرانية اللواتي يتواجد الأكراد على أراضيهم، لتتبعهم بعد ذلك بالأمازيغ وغيرهم.
 
وهكذا بات التناقض واضحا بين الولايات المتحدة والحليفة تركيا التي تتواجد على اراضيها قاعدة انجرليك الأطلسية، وبعض من قيادات حلف شمال الأطلسي التي تركيا عضو فيها.
 
وثارت شكوك مشابهة حول النوايا الأميركية تجاه دولة قطر، بعد نشوب النزاع سابق الذكر بينها وبين بعض دول الخليج وفي مقدمتها السعودية، وهي شكوك أثارت مخاوف قطر بأنه ما اذا بلغ النزاع بينها وبين تلك الدول، الحليف الودود للولايات المتحدة والمنضوية تحت لواء حمايته لها… فان الأميركيين المتحالفين أيضا معها، وتوجد قاعدة لهم على الأراضي القطرية هي قاعدة عيديد، قد يبطشون بقطر وبكل قواتها الصغيرة نسبيا. فهنا تذكر القطريون أيضا بأن الدفاع عن الكويت عندما غزاها العراق في عام 1990، قد تم بموجب تحالف لم يكن اسمه حلف شمال الأطلسي، بل تحت مظلة حلف دولي ضم 28 دولة معظمها أعضاء في حلف شمال الأطلسي كبريطانيا وفرنسا وغيرها من دول تحالف الأطلسي الذي سمي آنئذ تمويها بالتحالف الدولي.
 
ومن هنا قدر القطريون بأن الأمر قد يتجدد معها وعلى أراضيها اذا ما اشتد النزاع بينها وبين الدول المجاورة، وبلغ حد الاشتباك المسلح.
 
 وهكذا بات على دولة قطر، تجنبا لأن تقصر اعتمادها في حماية نفسها من هجمة خليجية على الأميركيين فحسب وعلى قاعدتهم في عيديد، أن بادرت لمطالبة تركيا بتعزيز تواجدها في قاعدتها القطرية التي كانت حتى ذلك الوقت قاعدة صغيرة.  وما زاد في مخاوفها، أن الرئيس ترامب، الصديق الودود للسعودية، قد شرع يطلق التصريحات المنتقدة لقطر لكونها من الدول الممولة للارهاب، متناسيا أن معظم دول الخليج، وبالذات السعودية، كانت الممولة الأولى للارهاب، بدءا بتمويل تنظيم القاعدة منذ تسعينات القرن الماضي، والمضي قدما بعدها، لتمويل الكثير من التنظيمات الارهابية التي عاثت فسادا ودمارا في سوريا، وفي مقدمتها الدولة الاسلامية، أي داعش.
 
وهكذا بدأ يلوح في الأفق شرخ أو تصدع  في جدار حلف شمال الأطلسي الذي بات يسلك، او تسلك قيادته على الأقل، تصرفات تتلائم مع مصالحها، لكنها تتعارض مع مصالح أعضاء فيها.  ولعل بعض دول أوروبا الغربية قد باتت أيضا تشكك في امكانية اعتمادها على حلف شمال الأطلسي التي هي عضوة فيه، بدليل أن الرئيس الفرنسي ماكرون قد كشف في خطاب له قبل أسبوع، بأنه يسعى لزيادة ميزانية قواته المسلحة بعدة مليارات من اليورو، وذلك لتنمية قدرة فرنسا على الدفاع عن نفسها.
 
ففرنسا قد سئمت كما يبدو، من التهديدات والتصريحات المتكررة من رجل المال والأعمال الذي بات فجأة رئيسا للولايات المتحدة، وهي التصريحات المذكرة على الدوام بعدم جواز قيام الدول الأعضاء في الحلف، بالاعتماد كليا على تحمل الولايات المتحدة العبء الأكبر من تكلفة ذاك الحلف، مطالبا تلك الدول  بزيادة مساهمتها (المالية وليس العسكرية). فالتكلفة المالية هي كل ما كان يؤرق الرئيس رجل المال والأعمال في كل قراراته، والتي عبر عنها بصراحة لدى رفضه اتفاقية دكا الاقتصادية، واتفاقية المناخ، واتفاقية الهجرة، وكل الاتفاقيات الأخرى التي رفضها حرصا على المال الأميركي. وبما أن الرئيس الفرنسي ماكرون قد سئم من تلك التصريحات والتلميحات، فقد قرر الاستجابة اليها  ولكن بطريقة أخرى، أي ليس عن طريق زيادة مساهمات فرنسا المالية في حلف شمال الأطلسي، بل عن طريق تعزيز ميزانية فرنسا العسكرية، وزيادة القوة الفرنسية لتصبح قادرة في مرحلة ما للاعتماد على نفسها في الدفاع عن بلادها وعن مصالحها، دون الحاجة للاعتماد  في ذلك على حلف شمال الأطلسي، آملا كما يبدو، بأن تخطو لاحقا دول أوروبية أخرى خطوات مشابهة، في تطور قد يتحول تدريجيا الى حلف دفاع أوروبي لا يعتمد كثيرا على حلف الأطلسي قدر اعتماده على نفسه، فلعل في ذلك ما يخفف من أعباء الولايات المتحدة المالية في ذاك الحلف الآيل للسقوط والتلاشي كما يبدو، بعد أن طاله الكثير من التصدع والاهتزاز.
 
وقد تجلى التردد الدولي وخصوصا الأوروبي،  في السير على غير هدى وراء قيادة “رجل المال والأعمال” ، عندما جرى اقتراع في الجمعية العامة للأمم المتحدة، في نهايات العام الماضي، حول قرار الرئيس ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لاسرائيل. ذلك أن 128 دولة قد صوتت ضد القرار الأميركي المتهور والمتعارض مع قرارات مجلس الأمن الدولي. وكان من بين تلك الدول، العديد من الدول المنضوية تحت جناح حلف  شمال الأطلسي، مما يؤكد مرة أخرى بداية التصدع في ذاك الحلف، الذي يتوقع له الكثيرون أن يزداد تهلهلا، وأن تلجأ دول أوروبية أخرى الى زيادة ميزانية دفاعها وقواتها العسكرية،  وذلك لاضفاء مزيد من الاعتماد على نفسها في حماية نفسها بنفسها من أية أخطار، مع احتمال تجمعها في نهاية المطاف في حلف عسكري أوروبي، الأمر الذي يراه بعض المراقبين قد بات محتملا، وخصوصا اذا ثابر رجل المال والأعمال على ادارة شؤون الدولة القائدة…أي الولايات المتحدة الأميركية، فالرجل قد بات  يكثر من تمنين حلفائه وبعض دول العالم،  بما تنفقه الدولة الأميركية من أجل الدفاع عنهم.
 
 الأمر اذن قد يزداد سوءا ما لم ينضج رجل المال والأعمال ولو قليلا، بحيث يدرك بأن الدول لا تقاد بعقلية رجل المال والأعمال،  بل بعقلية الرئيس الناضج سياسيا، المدرك  ولو بعد لأي، أن ادارة الدول  تختلف، ليس قليلا بل كثيرا، عن نهج ادارة رجل الأعمال لشركة ربما برع كثيرا في ادارتها، بل وبأساليب التهرب من تسديد ما يترتب عليها من ضرائب.