أيمن زكى
فى مثل هذا اليوم من سنة 959 ش. الموافق 10 مارس 1243 تنيح قداسه البابا كيرلس الثالث الخامس والسبعون من باباوات الكرازة المرقسية، بعد نياحة قداسه البابا يؤانس السادس، ظل الكرسي البطريركي شاغرًا مدة عشرين سنة تقريبًا، بسبب الظروف التي أحاطت بالبلاد من جراء الحروب الصليبية (حروب الفرنجة)، وبسبب خلافات الأقباط فيما بينهم في شأن من يصلح للبطريركية.
 
و قد ظهر ثلاث مرشحين للبطريركية لكل منهم فريق من الأراخنة يناصرونه، واستعملوا أساليب رخيصة في الدعاية لهم بعيدة عن أوامر الكنيسة وتقاليدها، وكان هؤلاء المرشحون هم: القس بولس البوشي - القس داود بن لقلق الفيومي - الأرشيدياكون أبو شاكر بطرس ناظر كنيسة أبو سرجه بمصر القديمة. التجأ فريق آبى شاكر بطرس إلى وسائل غير مشروعة، وقدموا مبالغ طائلة لبيت المال والسلطان نفسه، ومع ذلك لم ينجحوا فيما أرادوا، أما القس بولس البوشى والقس داود بن لقلق، فظلا متلازمين يشتركان ويتعاونان في وضع الكتب الدينية دفاعا عن الدين، وظل القس داود بن لقلق طوال هذه المدة مثابرا في اغتنام كل فرصة تواتيه للوصول إلى تحقيق مأربه وهو كرسي البطريركية، أما القس بولس البوشى فلما رأى المنازعات على أشدها، وأخذت شكلًا يتنافى مع الدين، سحب نفسه من هذه المنافسة كما انسحب الأرشيدياكون بطرس، وهكذا أخلا الميدان للراهب القس داود بن لقلق الفيومي.
كان البابا كيرلس الثالث من الفيوم حيث العديد من الأديرة، وكانت هذه الأديرة مأهولة في القرن العاشر بالرهبان، فانخرط داود في احدها. ولعله كان باسم دير القديس ماربقطر، وكان من زملائه في هذا الدير الراهب بولس البوشى. رسم داود قسا وخدم بإحدى كنائس الفيوم، وما لبث أن حدث خلاف شديد بينه وبين كهنة هذه الكنيسة، وقام -بسبب هذه المنازعات- أكابر المسلمين في المدينة واعتقلوه فضا للمشاكل ليستب الأمن، لكنه ما لبث أن أُطلِق سراحه بواسطة احد أراخنة الكنيسة المدعو أبو الفتوح نشئ الخلافة، المعروف بابن الميقاط، واحضره إلى القاهرة واسكنه معه بداره، وكان ذلك في حياة البابا يؤانس السادس، ومنذ ذلك الحين توطدت العلاقة بين داود بن لقلق ونشئ الخلافة أبو الفتوح، وكان للراهب ابن لقلق تعاليم تخالف تعاليم الكنيسة.
وفي تلك الآونة تنيَّح مطران الحبشة وسعى الراهب داود أن يرسم بدله، وقدم مائتي دينار للملك العادل ليصدر أمره للبطريرك برسامته، فأرسل الملك رسولا من قبله للبطريرك يحمل له هذا الأمر الملكي، لكن البطريرك اعتذر في لباقة عن إجابة هذا الطلب، لأن الراهب داود لا يصلح للمنصب بسبب مشاكل إيمانية لأنه يقول أقوال الروم الملكانيون، وأن ذهابه إلى الحبشة قد يجلب مكاره كثيرة، ولما سمع الملك ذلك عدل طلبه، ورسم البطريرك مطرانا آخر على الحبشة، وكان فعلا ابن لقلق يقلد الكاثوليك في أقوالهم ولباسهم.
 
ورغم محاولات أبو الفتوح مع الملك لكى يرشم داود بطريركا لم ينجح في ترشيحه، فلجأ ابن لقلق إلى وسيلة أخرى بأن أرسل إلى كراسي الآباء الأساقفة بالوجه البحري وإلى أسقف طنبدي في الوجه القبلي، فاجتمع سبعة أساقفة فأكرمهم وطلب إليهم كتابة تكريز للراهب داود بأنه يصلح بطريركًا.
و حدث انه تصادف أن الملك الكامل خرج من القاهرة في نزهة صيد إلى الإسكندرية، فبعد بحرا ورأى صومعة راهب حبيس (متوحد) هناك واقف تحتها وصاح عليه فكلمه ودعا له، فشكى الملك له من وجع في قلبه، فصلى له الراهب الحبيس على ماء وزيت طيب وقال له "إذا أدهنت موضع الوجع فاعلم الشافي" (أي اعلم أن الشافي هو الله). وفعلا شفي الملك وأصبحت مودة بينهما، فلما كثر النزاع حول ابن لقلق تذكر الملك الكامل الراهب الحبيس بأبيار، وقال للأساقفة أنا أمر أن يكون حبيس أبيار بطرككم وأنا أرضاه لكم، وكتب في الحال إلى وإلى الغربية أن يأتيه بهذا الحبيس إلى القاهرة. فلما سمع نشئ الخلافة أبو الفتوح بذلك الخبر اتفق مع الأمير فخر الدين عنان وزير الملك الكامل على أن يقولوا للسلطان عن الراهب الحبيس بأبيار انه يسأل مولانا السلطان ألا يزعجوه ولا ينزلوه من صومعته، وأنفذوا رسلًا أرجعوه ثانية إلى أبيار بعد أن كان وصل إلى قليوب.
 
و لما سمع بهذا الخبر احد الأقباط ويدعى السعد بن صدقة وكان من الأراخنة، فغار غيرة الرب واخذ جماعة من الناس، ووقف للسلطان وقاوم منشئ الخلافة في رسامة الراهب ابن لقلق وقال للملك الكامل انه يصانع المال حتى يتقدم علينا، وقد دفع للملك العادل ما كثر حتى نأمر البطريرك أن يجعله مطرانا ولم يصلح، فهل يحل الله لك أن تجعله علينا بطريركا يفسد ديننا، ويجعل قبط مصر كلهم روما، ويخرجها من أيدي المسلمين، فأرسل الملك الكامل إلى والى مصر رسالة يقول فيها إن أنت مكنت أبا الفتوح وأصحابه أن يقيموا بطريركا يغدر بي شنقتك.
 
فقام أبو الفتوح بمحاولة أخيرة لرسامة ابن لقلق، فانتهز فرصة خروج الملك العادل إلى الإسكندرية واستأذنه في رسامة ابن لقلق، فقال له: اجعله بطريركًا والحق به إلى الإسكندرية ولا تبطئ، وبالفعل استعد داود بإثبات كهنوته وخرج مع الأساقفة وأبو الفتوح إلى الكنيسة المعلقة ليرسموه بطريركًا، فاتصل البعض بوالي مصر فركب وجماعة من جنده وجاء إلى الكنيسة المعلقة، وفرقوهم وفرَّ ابن لقلق وخرج الأساقفة قاصدين كراسيهم، ومنذ ذلك الوقت لم يعد نشئ الخلافة يتحدث في أمر رسامة ابن لقلق.
 
ولما يأس ابن لقلق من رسامته بطريركا وسكن احد الأديرة الغربية من القاهرة وهو دير القديس فيلوثاوس المعروف بدير النسطور، الذي كان يشرف عليه احد أعوانه، وطال الحال بمصر دون بطريرك حتى لم يبقى من الأساقفة سوى أسقفين بالوجه البحري وأسقفين بالوجه القبلي، وخلت كنائس كثيرة من الكهنة، حتى أن مدينة الإسكندرية وبرية شيهات لم يبقى لهم إلا كاهن واحد، ونفذ الميرون أيضًا حتى اضطرت أغلب الكنائس أن تأخذ بواقي الميرون ويجعلونه في المعمودية، كما اضطرت بعض الكنائس في القرى إلى استخدام زيت الغاليلاون بدل الميرون.
 
و أخيرًا بواسطة راهب يدعى عاماد، اتفق مع الراهب اولا أن يدفع ألف دينار ويمنه بها لبيت المال، وكان الملك الكامل بالإسكندرية واتفقوا معه أن تتم رسامة الراهب ابن لقلق بطريركا بالإسكندرية باسم كيرلس الثالث وذلك بواسطة يد أسقفين أحدهما أسقف اشمون طناح (أشمون الشرقية) والثاني أسقف بلج، وكان ذلك يوم 16 يونيو 1235 في كنيسة أنبا شنودة خارج المدينة، وكانت الرسامة يوم الأحد الثاني 23 يونيه بكنيسة سوتير (المخلص).
ومن الأخطاء الكثيرة التي تؤخذ على البابا كيرلس الثالث لجوءه إلى سيمونية في الرسامات الكهنوتية وكان قد تقرر عليه أن يدفع اثني عشر ألف بندقي لبيت المال (حوالي 3000 دينار) وكان لا يملك منها شيئًا، فلجأ إلى السيمونية لسداد هذا المبلغ، وهو بطبيعة الحال خطأ واضح، أما السبب فإن هذا البطريرك رُسِمَ بطريقة غير شرعية ولا تقرها قوانين الكنيسة، وقيل عنه انه لم يرسم أسقفا أو كاهنا أو شماسا إلا بالسيمونية،
 
ورسم عددًا كبيرا من الأساقفة لأن معظم الكراسي الأسقفية كانت خالية، وقيل انه في اقل من سنه رسم أكثر من 40 أسقفا وعددًا لا يُحصى من القسوس والشمامسة، وكان عذره الذي يقدمه دائما إزاء هذا النقد هو جميع ما يجب دفعة من المال للسلطان، وبسبب السيمونية ابتعد عنه أكثر مَنْ كانوا ملتصقين به، حتى نشئ الخلافة نفسه، وقد تعرض لإهانات وحبس بسبب التصرفات التي أنكرها عليه الجميع.
 
وظل البطريرك كيرلس الثالث سائرا في خطته السيمونية حتى فج الشعب من تصرفاته، واجتمع جماعة من الاراخنة واتفقوا على مناقشته في تصرفاته، وذهبوا إلى الكنيسة المعلقة، ودار بينهم حوار وحديث ساخن وقالوا له (إلى متى تفعل هذه الأشياء التي جعلتها مرسبة بين الأمراء والشعوب، فسألهم (وما هي هذه الأشياء التي تتضررون منها) قالوا له أخذك السيمونية على الكهنوت، فلما سمع هذا احتج بسداد أموال السلطان، فأجابوه: ومَنْ أوجب عليك أن تقرر للسلطان شيئًا ما كان معين عليك أن تدخل فيه، ولم تُطرَح عليك البطريركية بالقوة، بل أنت الذي قدمت رشوة في سبيلها، واغتصبتها لك وقضيت فيها إلى اليوم مدة تسعة وعشرين شهرا حصل الخراب في أعمال كنيستنا على يديك، أجابهم البطريرك أنى لم أخرب كنيستكم بل عمرتها، فما كان فيها سوى أسقفين وأصبح عددهم اليوم خمسين أسقفًا، كما أصبح عدد الكهنة لا يُعَد ولا يُحصى، قالوا له أن الأساقفة هم الآخرون يأخذون السيمونية، فرد عليهم ومن يرضى بهذا للأساقفة، لو بلغني أن أسقفًا اخذ السيمونية لمنعته، وختموا حديثهم معه بان يكتب إلى الأساقفة بمنع السيمونية.
 
وفي سبيل جمعه لمزيد من الأموال أمر أن تتبع جميع الأديرة للبطريركية، بعد أن كان كل أسقف مسئول عن ديره، كما أنشا مطرانية قبطية على بيت المقدس وبلاد الشام، ورسم لها أسقفًا يرعى شئون الأقباط هناك باسم باسيلوس، وكان هؤلاء هو أول بطريرك يرسم أسقفا للقدس.
 
وإزاء تصرفات هذا البطريرك تقدم إليه البعض بمطالب للإصلاح في مقدمتها: إيمان الأقباط وأبطال السيمونية، لكنه لم يبال بها ولم يغير من طريقته، فطالبوه بعقد مجمع مقدس، ولما اجتمع الأساقفة مع البطريرك، حضر إلى القاهرة أربعة عشر أسقفا منهم اغلبهم من الوجه البحري، واجتمعوا بالبطريرك في كنيسة حارة زويلة في 3 سبتمبر 1238 م.، ووضعوا قرارات وقعوا عليها وحرموا من يحيد عنها وهى المعروفة بقوانين كيرلس بن لقلق،
وخرج الأساقفة وعادوا إلى كراسيهم بعد انتهاء مجمع زويلة، لكن البابا كيرلس الثالث بعد أن حدد الأنظمة التي تتبع في إدارة شئون الكنيسة وموافقته عليها هو والأساقفة المجتمعين معه لم يقم بتنفيذها، فعقد له في 8 سبتمبر 1240 مجلس في قلعة صلاح الدين بحضور الوزير معين الدين بن الشيخ والأساقفة وشيوخ الرهبان والأراخنة وبعض المسلمين الذين حضروا مع الوزير، وقد تقرر في هذا الاجتماع بحضور كيرلس الثالث أن تسير الأمور في الكنيسة على نحو ما سبق تقريره في مجمع زويلة وأضافوا إليه ما يأتي:
 
- أن يلازم القلاية البطريركية أسقفان عالِمان هما القمص بولس البوشي الذي تقرر رسامته أسقفا على مصر، والثاني احد الأساقفة العلماء بالوجه البحري وحددوا أسماءهم، ويعمل البطرك معهما في كل ما يتعلق بشئون الكنيسة الإدارية.
- أن تتولى كل كنيسة بمصر والقاهرة والإسكندرية إدارة أوقافها.
 
- أن تختصر القوانين التي وضعت في سنتي 1238، 1239 بالاتفاق مع البطريرك والأساقفة الحاضرين، وتكتب عدة نسخ وتوزع على الكراسي للسير بمقتضاها
 
- فيما يتعلق بالرهبان الذين يخدمون في كنائس العالم، يستمر بالخدمة مَنْ كان موجودا منهم حتى نياحة البابا يؤنس السادس بشروط معينة.
وحدثت في أواخر أيام كيرلس بن لقلق عدة مشاحنات بسبب تجاور مسجد وكنيسة المعلقة، واعتدى المسلمون على حائط الكنيسة المجاور للمسجد، وحدثت بلبلة كبيرة بسبب ذلك، وكان المسلمون يصعدون إلى ظهر قلاية البطريرك ويؤذنون ويكبرون، وحدثت أحداث مؤسفة نتيجة لذلك، وعلى الرغم من الأمير احضر قوما منهم وعنّفهم بشدة كما حبس والى مصر جماعة منهم إلا أنهم لم يهدأوا.
 
و فى اخر ايامه نصحه أسقف مصر التقي أنبا بولس البوشي البطريرك بأن يلجأ إلى حياة الوحدة أملًا في الهدوء، ولمراجعة تصرفاته والبعد عن العالم وعن الاحتكاك بالناس، مما يهيئ له الرجوع إلى الصواب في أواخر حياته، حتى تتساوى أعماله بمواهبه النادرة المثال، كما قال فيه أبو شاكر بطرس المعروف بابن الراهب في كتابه التاريخ (أنه كان رجلًا بارعًا ذا فنون كثيرة، إلا أنه كان يحب جمع المال وأخذ السيمونية، ولهذا عصت عليه القوم وأهانوه وعقدوا له المجالس، وقد فلح الأنبا بولس البوشي في إقناع البطريرك بذلك، فاعتزال في دير الشمع بالجيزة حتى نياحته في سنة 959 للشهداء. 10 مارس 1243 وأقام هذا الأب على الكرسى البطريركى سبع سنين وثمانية أشهر وثلاثة وعشرين يوما. ودفن بهذا الدير.وقد عاصر من الملوك الأيوبيين: الملك الكامل - العادل - الصالح - المعظم.
بركه صلاته تكون معنا آمين...
و لالهنا المجد دائما ابديا امين...