القمص يوحنا نصيف
- 45 -   جئتُ لألقي نارًا على الأرض
    القدّيس كيرلّس الكبير له تعليق جميل، على حديث السيّد المسيح في (لو12: 49)، عندما قال: "جئتُ لألقي نارًا على الأرض، فماذا أريد لو اضطرَمَت؟".. فيقول:

    + تعالوا لنفحص ما هي طبيعة هذه النار التي يتحدّث عنها هنا. هل هي نافعة لمَن هم على الأرض؟ هل هي لأجل خلاصهم؟ أم أنّها تُعذِّب الناس وتسبّب هلاكهم، مثل تلك النار المُعدَّة لإبليس وملائكته؟

    + نحن نؤكِّد أنّ النار التي أرسلها المسيح، هي لأجل خلاص البشر ونفعهم. وقد تفضَّل الله ومنحنا أن تمتلئ قلوبنا بها. لأنّ النار هنا هي رسالة الإنجيل المُخَلِّصة، وقوّة وصاياه. فنحن الذين كُنّا باردين وأمواتًا بسبب الخطيّة، ونجهل ذلك الذي هو الله بالطبيعة وبالحقّ، تُضرِم فينا هذه النار حياة التقوى، ونصير "حارّين في الروح" (رو12: 11)، بحسب تعبير الطوباوي بولس. وبالإضافة إلى هذا نصير نحن شركاء الروح القدس الذي هو كنارٍ داخلنا، لأنّنا اعتمدنا بالنار والروح القدس..

    + من عادة الكتاب الموحى به من الله أن يعطي أحيانًا اسم النار للكلمات الإلهيّة والمقدّسة، وللفاعليّة والقوّة التي بالروح القدس، والتي بها نصير كما قلتُ: "حارّين في الروح".. لذلك كما أنّ الذين يَعرِفون كيف ينقّون الذهب والفضّة، فإنّهم يُذيبون الشوائب التي فيهما باستخدام النار، كذلك أيضًا مُخلِّص الكلّ يُنَقّي قلوب كلّ الذين آمنوا به، بواسطة تعليم الإنجيل بقوّة الروح.

    + قال إشعياء النبي أنّه "طار إليّ واحد من السيرافيم، وبيده جمرة قد أخذها بملقط من على المذبح، ومسّ بها فمي، وقال إنّ هذه مسّت شفتيك فانتُزَع اثمُكَ وكُفِّر عن خطيّتك" (إش6)، فأيّ تفسير إذن يجب أن نضعه للجمرة التي مسّت شفتيّ النبيّ، وطهّرته من كلّ خطيّة؟ من الواضح أنّها رسالة الخلاص، وإقرار الإيمان الإيمان بالمسيح، فإنّ كلّ مَن يعترف به بفمه يتطهّر تمامًا، وفي الحال. وهذا الأمر يؤكِّده لنا بولس قائلاً: "لأنّك إن اعترفتَ بفمك بالربّ يسوع، وآمنتَ بقلبك أنّ الله أقامه من الأموات خلصتَ" (رو10: 9).

    + لذلك نحن نقول أنّ قوّة الرسالة الإلهيّة تُشبِه جمرة حيّة وتُشبِه النار. وربّ الكلّ قال في موضِع ما لإرميا النبي: "هأنذا جاعل كلامي في فمك نارًا، وهذا الشعب حطبًا، فتأكلهم" (إر5: 14)، وأيضًا: "أليس كلامي هكذا كنارٍ يقول الربّ" (إر23: 29 سبعينيّة). لذلك فبحقّ قال لنا ربّنا يسوع المسيح: "جئتُ لألقي نارًا على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت؟" (لو12: 49). لأنّ بعضًا من الجمع اليهودي آمنوا به، وباكورة هؤلاء كانوا التلاميذ القدّيسين. والنار إذ تشتعل مرّة فإنّها حالاً ما تُمسِك بكلّ العالم، وفي الحال يَصِل التدبير إلى كماله سريعًا.

    + لذلك ها أنتم ترون أنّ تلك النار الإلهيّة والمقدّسة، قد انتشرت في كلّ الأمم، بواسطة الكارزين القدّيسين. وقد تحدّث المسيح عن الرسل القدّيسين والبشيرين، بواسطة أحد الأنبياء في موضع ما، فقال: "وسيحدث في ذلك اليوم أنّي أجعل رؤوس الألوف ليهوذا كمصباح نار بين الحطب، وكمشعل نار بين الحِزَم، فيأكلون كلّ الشعوب حولهم عن اليمين وعن اليسار" (زك12: 6). وكأنّهم أكلوا شعوب الأرض كنار، واغتذوا بالأرض كلّها، وأشعلوا كلّ سكانها، الذين -كما قلتُ- كانوا باردين، وكانوا يعانون من موت الجهل والخطيّة.

[عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 94) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]
القمص يوحنا نصيف