عاطف بشاي
(«نجيب».. اصحى.. انت فزت بجائزة «نوبل»)، كانت الساعة وقتها الثانية والنصف من بعد ظهر يوم الخميس (13 أكتوبر 1988)، عندما دخلت السيدة «عطية الله إبراهيم»، زوجة «نجيب محفوظ»، عليه فى حجرة نومه.. وهزت كتفه مُهلِّلة فى فرح طاغٍ بالعبارة السابقة- كما جاء فى افتتاحية مجلة «المصور»، التى خصصت عددًا خاصًّا للجائزة- انتبه الرجل من «تعسيلة القيّالة»، غاضبًا من هذا الاعتداء على طقس من طقوس حياته اليومية، صائحًا: «ما تبطلى أحلام بقى».. لكن الخبر الذى لم يتوقعه الأستاذ من قبل، والذى لم يكن قادرًا على تصديقه، أصبح حقيقة مؤكدة.. فبعد دقائق كان سفير السويد بالقاهرة يدق جرس الباب، فارتدى «نجيب محفوظ» الروب على البيجاما، واستقبله، وهو مازال غارقًا فى الدهشة وعدم التصديق. ولم يكد سفير السويد ينتهى من كلماته حتى انفتح باب الشقة، التى لم يدخلها الغرباء أبدًا من قبل.. جاءت صحافة العالم.. وإذاعاته وتلفزيوناته.. ووكالات أنبائه، ولم يعد يصبح هناك مكان لقدم.

يكتب الكاتب الصحفى الصديق «عبده جوبير»، فى كتابه «قصص قصيرة مع نجيب محفوظ»، وقد كان لصيق الصلة بالأستاذ، وواحدًا من رواد ندوته، التى يعقدها يوم الجمعة من كل أسبوع، فى مقهى «ريش»، والذى أسرع إلى شقته فور ذيوع الخبر: «بدأت جحافل الصحفيين تفِد إلى الشقة الصغيرة.. ولم يكن التليفون يكف عن الرنين، ترد زوجته على المُهنِّئين، وتُسلمه السماعة.. ثم تختفى للحظات، وتعود بأكواب الشربات، توزعها على الوافدين.. واختلط الحابل بالنابل، فلمحت السيدة وقد أعياها التعب، فاقترحت على الزميلات الصحفيات، اللاتى تواجدن فى هذه الساعة، مساعدتها.. وهكذا دخلنا المطبخ، ووزعنا المسؤوليات علينا.. وقد كنا جميعًا نحس أن هذا بيتنا وأننا أبناء الرجل الكبير، الذى انتزع لنا جائزة نوبل من فم الأسد».

المدهش أن «نجيب محفوظ»، الذى وضع لحياته وعاداته اليومية وسلوكه الإنسانى فى الحياة نظامًا صارمًا لا يحيد عنه قيد أنملة.. يتضح ذلك من خلال موقفين يسردهما «عبده جوبير».. الأول يظهر جليًّا أثناء تواجد هذا الحشد الرهيب فى منزله فى تلك اللحظة التاريخية، فإذا به يتسلل من بين الخلق المتزاحمين، (وكان لا يزال يرتدى الروب دى شومبر على بيجامة النوم)، ويختفى للداخل.. ثم كانت المفاجأة به، يصفق بيديه، والسيدة زوجته تترك ما فى يدها، وتركض كالملسوعة تستجيب للتصفيق.. ثم تعود وتلملم الجرائد، التى كان الزوار قد عبثوا بها، وتحاول طيها بترتيب وتدخل بها.. ويتضح أن هذا هو موعده الثابت لتصفح الجرائد حتى يغفو كعادته.

الموقف الثانى أنه فى نفس اليوم.. وفى الساعة السادسة تمامًا، انصرف «نجيب محفوظ» من منزله ليلتقى بشلة «الحرافيش» من أصدقائه «صلاح أبوسيف» و«توفيق صالح» و«أحمد مظهر» و«عادل كامل» و«بهجت عثمان»، ويقابلونه هذه المرة بالعناق، وبأن الجائزة جاءت فى يوم اللقاء الأسبوعى.. ولا ينام «نجيب محفوظ» عقب عودته بعد سهرة «الحرافيش» إلا فى الثالثة صباحًا، وهذا يحدث لأول مرة فى حياته كلها.

وبمناسبة التزامه بموعده المقدس مع الحرافيش حينما عرض التلفزيون فى أوائل الثمانينيات فيلم «تحقيق»، المأخوذ عن قصة له، فى أول سيناريو وحوار لى فى بداية رحلتى فى التأليف الدرامى، سأله الناقد «محمد صالح» عن رأيه فى الفيلم، فأكد له أنه لم يشاهده لارتباطه بموعده مع الحرافيش.. فلمّح له الناقد أن السيناريست قد غيّر كثيرًا فى أحداث القصة ورسم الشخصيات والنهاية، وحوّل اتجاهها من قصة تنتمى إلى أدب «اللا معقول» إلى فيلم «معقول».. فكان رده: حسنًا ما فعل.. فقد سبق أن التزم كاتب سيناريو آخر بقصة عبثية لى، هى «شهر العسل»، بنفس طريقة الحكى والبناء العبثى.. فأغلق الناس التلفزيون.

■ ■ ■

«أصبحت موظفًا عند (نوبل)»
أطلق نجيب محفوظ العبارة السابقة، فى سخرية، لا تخلو من ضيق، عبّر عنه حينما التقى بالكاتب الكبير «رجاء النقاش»، بعد فوزه بالجائزة، لإجراء أحاديث وحوارات موسعة معه، تتناول بالدقة والتفصيل كل ما يتصل بأدبه وحياته ضمها كتاب «نجيب محفوظ.. صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته»، فقد أوضح فى هذه الحوارات أنه منذ إعلان فوزه بالجائزة لم يمر يوم إلا وهناك طلب لإجراء حوار صحفى أو إذاعى أو تلفزيونى من مصر أو من دول العالم، وهذا الأمر يرهقه لسببين، الأول أنه يتعارض مع مزاجه الانطوائى، الذى لا يميل إلى الظهور والأضواء، ما جعل «ثروت أباظة» يردد المثل الشعبى: «يدى الحلق للى بلا ودان»، والسبب الثانى أن صحته لم تعد تتحمل مثل هذا الإرهاق البدنى، خاصة مع تقدم العمر.

ويذكر أنه فى الأسبوع التالى لحصوله على الجائزة، صادفه برنامج حافل باللقاءات والتسجيلات.. فاضطر فى أحد أيام ذلك الأسبوع من الإرهاق الشديد أن ينام على مقعد صالة الشقة.. ولما زادت الأمور على الحد، اقترح عليه الناقد «فتحى العشرى» حلًّا ليقلل به هجوم المحطات التلفزيونية، خاصة العالمية، هو طلب مقابل مادى قبل التسجيل كأمر معروف ومعترف به فى دول العالم المتقدمة.. وجاء الاقتراح بنتائج إيجابية.. المهم أن «نوبل» تسببت فى ارتباك بالغ آخر بنظامه الصارم، الذى اعتاد عليه والذى تعلمه من الوظيفة، التى أخذت بنصف وقته لمدة (38) عامًا.. وقد أثر هذا الارتباك على إبداعه، الذى تقلص ساعات الكتابة والغرق فى الارتباطات الصحفية، فقد كان قبل خروجه إلى المعاش يفرغ من عمله فى الثانية ظهرًا ويعود إلى المنزل لتناول الغداء، ثم يستريح لبعض الوقت.. ثم يجلس إلى مكتبه عندما تدق الساعة الرابعة.. ويبدأ بالكتابة لمدة ثلاث ساعات.. ثم تليها ثلاث ساعات أخرى للقراءات المتنوعة، وينام مبكرًا ليستيقظ مبكرًا ليلحق بمواعيد العمل الحكومى.. ولم يختلف هذا النظام بعد خروجه إلى المعاش إلا بالذهاب المبكر إلى المقهى قبل الثامنة صباحًا لمدة ساعتين يقرأ خلالهما الجرائد اليومية.. ويطلب فنجانًا واحدًا من القهوة (على الريحة) ويشرب كمية قليلة منه ويترك معظمه كما هو.. ولم يكن يُجرى المقهى أى مقابلات صحفية أو تلفزيونية.

كان الأستاذ إذًا مثالًا رائعًا.. ونموذجًا راسخًا يُحتذى به فى الدأب المتواصل والنظام المحكم والانضباط الملهم.. والهمة السامقة.. والعطاء المثمر.. الذى لا يستسلم لرفاهية الإلهام المنتظر بدعوى ربط الإبداع بالحرية الشخصية المنفلتة أو المزاج المراوغ.. أو هذيان الخيالات المبهمة، التى لا تأتى دائمًا فى مواعيد ثابتة.. فكان الحصاد وفيرًا والإنجاز مبهرًا.. كمًّا هائلًا من الروايات العظيمة والقصص البديعة، التى ستظل بازغة التوهج.. رابضة فى الذاكرة.. حاضرة فى جبين الزمن.. خالدة على مر العصور.
نقلا عن المصرى اليوم