حمدي رزق
رحل عنا البهاء، وكنا ننتظر طلته التى غابت طويلا، فى سنوات الصمت البليغ، وسنظل مشتاقين لحكمة السنين تدب بقدمين على رصيف شارع ٢٦ يوليو فى خطوات وئيدة، تعبر بنا الزمن إلى زمن كان الإخلاص عنوانًا، والحب صافيًا، والمواهب تتدثر ببعضها البعض حتى لا تدهمها رياح الهبوب تلفحها بخماسينه الرهيبة.

رحل طيب الذكر العم «بهاء طاهر» يلفه جلال الموت، فى خلوتك الأبدية أبانا الذى رحل نقرئك السلام، ونتذكر البهاء الطاهر، وأستعيد وكلى أسى بعضًا من صور حضوره النادر فى «دار الهلال» التى كانت موئلًا مستدامًا لإبدعاته.

لم أر فى فترة تعليمى على أيدى شيخى ومعلمى النقيب «مكرم محمد أحمد» الله يرحمه، لم أره باشًّا هاشًّا مبتسمًا إلا فى حضور الأستاذ بهاء.. يغمره السرور والانشراح، يغتبط عند اللقاء.

علمنى الأستاذ مكرم معنى الاحتفاء بالمواهب الاستثنائية، مثل هذه المواهب كنوز بشرية من يصحبها يعرف معنى السعادة، سعيد أن تعرفت إليه، وجلست إليه، وسعيت للحوار معه وكان كريما كرم المبدعين.

يغيب عن العين، ولكن يظل حضوره طاغيا، إذا غاب الحكيم لا يعوض غيابه حضور، سيظل حاضرًا بحكمته، متبتلًا، متنسمًا لحظات الألق فى وطن يستحق الافتخار.

وبهاء من البهاء، وهو بين المثقفين ساطع، فى سنوات الصمت، قل كلامه، وندر حضوره، ولم تعد الشاشات تكتحل بظهوره، عرف عنه عزوف، ورغبة حميمة فى الاعتزال، اعتزلنا ونحن المحبون، وانتحى جانبا متعجبا من الحال والأحوال، أحوال العباد.

يصفه طيب الذكر الراحل «علاء الديب» بالأديب الصادق، فالصدق هو النبرة الأولى التى تصافحك فى سطوره، ألف رحمة ونور على الأستاذ «بهاء طاهر» رحل إلى واحة الغروب تاركا فينا حزنا شفيفا.

كان يسبقه البهاء، كنت تراه شامخا بعوده الفارع مستندا على عصاه، يحتمى بـ«بييريه» من بلل السماء، يكسبه سمتا أفرنكيا وهو المصرى القُح الذى لم تغير المنافى حبه للبلاد الطيبة، وللنخيل باسقات، والنهر يجرى إلى مستقر، عاش حبا لوطنه فى المنفى، لا يعرف العشق إلا من يكابده، وهو عاشق للوطن حتى النفس الأخير.

لماذا الحزن العميق على رحيل الأستاذ بهاء، لأنه المتجرد فى أحكامه، المتحقق فى إبداعه، المتعفف عن الموائد، المقيم فى قلب الوطن، المتوحد مع الحلم، حلم الوطن، حلم الناس، حلم البسطاء، الحالم بالحرية فى تجليها، يجليها فى أيقونات إبداعية إنسانية عابرة للحدود، إبداعه بلا حدود، وهل للإنسانية حدود؟، إبداع بهاء نموذج ومثال.

كان نموذجا للتواضع الجم مع شموخ وكبرياء، قد تصادفه بعصاه يتوكأ عليها، متمهلًا فى طريقه محاذيًا الرصيف، تبتدره السلام، يمنحك لحظات من السعادة، معقبًا بقليل الكلام، يعود إدراجه، يلتحف بصمت الحكيم، يقلب بصره بين الأسماء.

وسؤال خليق بالافتكار، ماذا كتب الأستاذ بهاء فى سنوات الصمت، أظنه كتب أحلاما جميلة كان يتمناها للأحفاد، خلاصات الزمان والمكان، يقينًا سيكون حدثًا فريدًا إذا ما نشر ما ادخره فى «مذكرات أديب عاش فى المنفى» وهو فى قلب الوطن لكان حدثا فريدا محل احتفاء.

رحيل الأستاذ بهاء خليق بالاحتفاء، الأدبى والإنسانى، أخشى أننا ننسى فى عجلة أمرنا الحكماء، نخلف الحكمة وراء ظهورنا ونحن نهرول نحو سراب يحسبه الظمان ماء، الحكماء هم زاد وزواد هذا الوطن، وطن بلا حكماء فاقد العقل والمنطق، قد ضل من كانت العميان تهديه.
نقلا عن المصرى اليوم