هاني لبيب
الحضارة المصرية القديمة.. حضارة عريقة، وتعد من ثوابت التطور الحضارى والإنسانى ليس فقط لكونها منذ بدابة التاريخ، ولكن أيضاً لإنجازاتها العظيمة التى مازلنا إلى الآن.. نكتشف كنوزها بين الحين والآخر. ولذا لا يمكن لكلمات هنا أو تمثال هناك أن ينال من تلك العظمة أو يقلل من شأنها.. لأى سبب أياً كان سواء كان بحسن نية أو سوء نية مقصود.
 
كتبت قبل ذلك أن هناك من يعبث بشكل منظم لإعادة صياغة تاريخنا بشكل موجه. هذا الشكل الذى ترتب عليه تعظيم تاريخ الاحتلال العثمانى لبلادنا على حساب تهميش تاريخ مصر القديمة، بل وتشويهه باعتباره تاريخًا وثنيًا وجاهليًا. وما ترتب على ذلك من رسم صورة ذهنية إيجابية لصالح تاريخ الغزو العثمانى باعتباره تاريخنا الحقيقى، رغم ما حمله من تلفيق وتزوير باختلاق أحداث وتضخيمها، أو حذف أحداث أخرى وتطويعها وتعديلها بشكل مغاير عن حقيقتها، وهو ما تم على مدار سنوات طويلة على يد موالاة الجماعة الإرهابية تارة، ووكلاء العثمانية فى مصر تارة أخرى.
 
كتبت على صفحات مجلة «روزاليوسف» فى 30 يوليو 2022 مقالاً بعنوان «يا رب يا متجلى.. اهلك العثمانلى.. تاريخنا مصرى.. وليس عثمانيًا أو إخوانيًا!». وذكرت فيه بالتوثيق التاريخى أن شخصًا يُدعى «صائم الدهر» هو الذى كان يخطب للشعب المصرى بأهمية كسر الأصنام وقتما كان أبو الهول مغطى بالرمال، ولا يظهر منه سوى رأسه.. حتى قاموا بذلك سنة 1381، ولم يستطيعوا سوى تحطيم أنفه وجزء من فمه بالفؤوس. وليس حسب الرواية المتداولة بأن نابليون بونابرت «قائد الحملة الفرنسية» هو الذى وجه نيران مدافعه لوجه أبو الهول عند غزوه مصر بين سنة 1798 و1801. وذكرت أن الطريف فى الأمر أن هناك شارعاً شهيراً باسم «صائم الدهر» فى شبرا، والسؤال المنطقى: من الذى يريد الحفاظ على هذه الأسماء فى الذاكرة الشعبية للمصريين؟ ولماذا لم يتحرك أحد حتى هذه اللحظة لتغيير هذا الواقع الملفق البائس. وإذا كنا ندين بالفضل علمياً لعلماء الحملة الفرنسية.. خاصة فى مؤلفهم الموسوعى «وصف مصر» أو لاكتشافات شامبليون.. فقطعاً، لا ينف هذا، تجاوزات نابليون بونابرت فى حق الشعب المصرى، واستعماره لبلادنا دون وجه حق.
 
خلال الأسبوع الماضى، تم تداول صورة على الفيسبوك لتمثال لعالم الآثار الفرنسى الشهير جان فرانسوا شامبليون (1790 - 1832)، وهو يضع أرجله على رأس أحد ملوك قدماء المصريين (غالباً الملك تحتمس الثالث)، وهى الصورة الموجودة فى إحدى ساحات
 
‏ «College de France - Sorbonne» جامعة السوربون فى باريس. وتعددت ردود الأفعال بشكل يثير مشاعر الوطنية المصرية، بينما حملت بعض ردود الأفعال نوعا من العنصرية والطائفية التى تنم عن جهل عظيم بالتاريخ والحضارات والعلاقات الدولية. اجتهد البعض فى تفسير شكل التمثال بأنه يشير إلى تفوقه على أجدادنا بسبب قيامه بفك رموز طلاسم اللغة المحفورة على حجر رشيد الشهير. 
 
وذهب البعض إلى أنه عمل غير مقبول، ويجب تدخل وزارة الخارجية المصرية وقطع العلاقات الدبلوماسية مع فرنسا. وطالب البعض الآخر بتغيير اسم شارع شامبليون بمنطقة وسط البلد. كما شكك البعض فى مدى احترام جامعة السوربون للحضارات لأن هذا التمثال يمثل إهانة لمصر وسخرية منها وإهدارا للكرامة الإنسانية، وتشويها للحضارة المصرية القديمة. وزايد البعض بادعاء أن شامبليون ليس له أى إنجاز حقيقى فى علم المصريات. وأن الصورة مخالفة لمبادئ عمل منظمة اليونسكو ومنظمات الأمم المتحدة المعنية بالتراث، كما طالب البعض بنحت تمثال للملك تحتمس الثالث يضع حذاءه على رأس قادة الحملة الفرنسية «نابليون بونابرت» و«جاك فرانسوا مينو» و«جان بابتيست كليبر».. 
 
الطريف فى الأمر، أنه تم نحت هذا التمثال 1878 أى بعد حوالى 46 سنة على رحيل شامبليون، وهو ما يعنى أنه غير مسئول عن نحت هذا التمثال.  
 
أتفق مع البوست الذى كتبه وائل لطفى، وذكر فيه أن شامبليون صاحب فضل كبير على علم المصريات، وليس ذنبه أن أحدهم قام بنحت تمثال سيئ، وأن هذا التمثال لا يعبر عن موقف فرنسى عام ضد مصر. ويجب الفصل بين رفضنا للتمثال والاعتراض عليه وبين إهانة عالم مثل شامبليون.
 
من ضمن تلك الحالة من التاريخ المشوه، أن جميع كتبنا الدراسية قد ذكرت إنجاز شامبليون فى فك طلاسم ورموز حجر رشيد فى 27 سبتمبر 1822.. دون ذكر كلمة واحدة عن الكاهن المصرى يوحنا الشفتشى.. معلم شامبليون وأستاذه الذى قصده ليتعلم على يديه نطق اللغة القبطية.. التى هى فى حقيقة الأمر التطور الأخير للغة المصريين القدماء بعد الهيروغليفية والديموطيقية.
 
هناك مقالات عديدة.. تناولت سيرة يوحنا الشفتشى. ولكن جميعها دون استثناء تقريباً.. تنقل ما كتبه باللغة العربية الأكاديمى المصرى وأستاذ اللغة والأدب العربى بجامعة ليون فى فرنسا د. أنور لوقا (1927م – 2003م) بعنوان «يوحنا الشفتشى معلم شامبليون» فى موسوعة «من تراث القبط» (المجلد الأول الملحق الثانى ص 277 إلى ص 282).
 
ولد يوحنا الشفتشى بالقاهرة، وقد عمل مترجماً فورياً بمنطقة الجيزة، وكاتبًا أول بمحكمة الشئون التجارية، كما عمل بناء على توصية من العالم الرياضى «فورييه» مترجماً للجنة التى شكلها كليبر لجمع مواد تاريخ الحملة الفرنسية. وقد ذهب إلى فرنسا مع «الفيلق القبطى» بقيادة المعلم/ الجنرال يعقوب عام 1802م، وعمل كاهناً للمواطنين المسيحيين المهاجرين بكنيسة سان روش بباريس.. حيث قصده شامبليون ليتعلم على يديه دروس تعليم اللغة القبطية لإيمانه الشديد بأهمية اللغة القبطية باعتبارها التطور الطبيعى للغة المصريين القدماء.. لذا تأكد أن معرفته باللغة القبطية سوف تساعده بشكل أساسى فى فك رموز اللغة الهيروغليفية. وحسبما سجل فى مذكراته (سلمت نفسى بالكامل إلى اللغة القبطية.. لقد أصبحت قبطياً إلى درجة أن تسليتى الوحيدة الآن هى ترجمة كل ما يخطر على بالى إلى اللغة القبطية.. ثم إنى أتحدث إلى نفسى بالقبطية. وقد تمكنت من هذه اللغة إلى درجة أننى قادر أن أعلم قواعدها لأى شخص خلال يوم واحد.. وتتبعت تسلسل الروابط التركيبية لهذه اللغة ثم حللت كل شيء تحليلا كاملاً. وهو ما سيعطينى دون أدنى شك المفتاح اللازم لحل اللغز وفك شفرة نظام العلامات الهيروغليفية.. وهو المفتاح الذى حتما سأعثر عليه).
 
وقد حرص شامبليون على حفظ مكانة الكاهن يوحنا الشفتشى حيث ذكر صراحة فى مذكراته.. الخطاب الذى أرسله إلى أخيه سنة 1822 حيث كتب يقول: (أننى ذاهب إلى كاهن قبطى يسكن فى سان روك فى شارع سانت هونورى، وهذا الكاهن يعلمنى الأسماء القبطية، وكيفية نطق الحروف؟ وأننى أكرس الآن نفسى كلية لتعلم اللغة القبطية.. إذ أريد أن أتقن هذه اللغة مثلما أتقن الفرنسية، وأن نجاحى فى دراسة البرديات المصرية سيعتمد على إتقانى لهذه اللغة القبطية). وهو ما يؤكد أن الشفتشى هو الجندى المجهول وراء هذا الإنجاز التاريخى الذى لم يذكره أحد.. لكونه صاحب الفضل فى تلقين شامبليون نطق اللغة القبطية بشكل دقيق.
 
 
 
ملاحظة هامة ذكرها مؤخراً د. مجدى جرجس فى بوست له على الفيسبوك تحت عنوان «الشفتشى وشامبليون وحجر رشيد وعواطف قبطية» أن قصة الكاهن القبطى اللى ساعد فى فك رموز حجر رشيد فيها قدر كبير من المبالغات. ويرجح أن الكاهن يوحنا الشفتشى ينتمى إلى الكنيسة الكاثوليكية بالشام، وذكر أنه تم وصفه فى بعض النصوص بـ «الحلبى» نسبة إلى حلب بسوريا. وهو ما لم يذكره د. أنور لوقا فى بحثه المذكور بموسوعة «من تراث القبط». كما أشار ماجد كامل فى دراسة له نشرها على الفيسبوك بعنوان «الكاهن القبطى الذى ساعد شامبليون فى فك رموز اللغة الهيروغليفية» نقلاً عن الكاهن باسيليوس صبحى (محاضرة بكنيسة العذراء الزيتون بتاريخ 14 سبتمبر 2018) بالتأكيد على مصرية الشفتشى، وانتمائه لعائلة دينية عريقة حيث أكد على أن والده وشقيقه كهنة بالكنيسة الأرثوذكسية.. استناداً لمخطوطة محفوظة بمكتبة المخطوطات بكنيسة العذراء المغيثة بحارة الروم حسبما أفاد المؤرخ الكنسى نبيه كامل داود.  
 
وهى جميعها اجتهادات تستحق الرصد والبحث والتحليل.. للوصول إلى الحقيقة.
 
نقطة ومن أول السطر..
 
أين مؤرخونا من إعادة ضبط تاريخنا وصياغته كما هو دون تضخيم أو تهوين أو تجاهل للشخصيات والأحداث؟ وهل وراء استبعاد قصة الكاهن يوحنا الشفتشى.. بعد طائفى؟ مثلما تم تشويه قصة الجنرال يعقوب.. رغم أن البعض يعتبره أول مشروع وطنى لمواجهة الاحتلال العثمانى؟
 
تاريخنا الوطنى الحقيقى ليس عثمانياً أو إخوانياً.. ولن يكون، بل تاريخاً مصرياً أصيلاً وعريقاً..
 
إنها صفحات من تاريخنا المنسى.
نقلا عن روز اليوسف