كتب - محرر الاقباط متحدون 

 
في المكتبات ومع باعة الصحف مقالي في العدد التذكاري لمجلة الهلال إصدار أغسطس 2022 بعنوان:"
* تغطية تاريخية.
* تغطية جغرافية.
* تغطية روحانية.
* تغطية إنسانية.
قراءة ممتعة 
د. بهي الدين مرسي
لعل جملة ما كتب في تاريخ رحلة العائلة المقدسة إلى مصر يفوق ما تم توثيقة والكتابة عنه لأعظم الأحداث التي مرت بها مصر مجتمعة سواء في إنجازات البشر أو الحروب أو الكتابة عن الأديان وفلسفة العقائد، ذلك أن تعدد رؤى المؤرخين والكتاب جعل من الحدث مادة ثرية للكتابة والتوثيق الذي  اقترب من حد التقويم الزمني.
 
وبالرغم من غزارة أعمال الرسم والتصوير التي شاركت في تغطية الرحلة وفق الروايات التاريخية، إلا أن الدراما السينمائية لم تقترب كثيرا من إصدار أفلام سينمائية تتعرض للحدث التاريخي الذي يتخلله الأبطال الحقيقيون، وعوضا عن ذلك دأبت الوثائقيات السينمائية على توثيق الحدث كواقعة تاريخية، ولعل أشهر هذه الوثائقيات هو الفيلم التسجيلي "رحلة العائلة المقدسة" الذي يستعرض محطات وتاريخ الأماكن والكنائس والأديرة التي زارها السيد المسيح والسيدة العذراء مريم خلال رحلة العائلة المقدسة الذي أخرجته سميحة الغنيمي، وتجدر الإشارة إلى أن صناعة الوثائقيات شهدت مساحة من الحرية تتيح لها إنتاج المزيد من الأعمال ضمن الوصف التوثيقي من خلال بعض المبادرات التي تسعى لتوثيق الحدث في معالجة درامية محترفة تراعي البعد التاريخي وتحافظ بوقار شديد على قدسية السيدة العذراء والسيد المسيح، ويأتي هذا التوجه متفقا مع مبادرة  السيد رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي بتسهيل الإجراءات للأعمال الفنية التاريخية الهامه، ويجري حاليا الاستعداد لتصوير فيلم حول مسيرة العائلة المقدسة.
 
في الحقيقة، بذل كثيرون ممن كتبوا وسعوا لتوثيق الرحلة جهودا عظيمة استعانوا فيها بمرويات تاريخية ومخطوطات ضمن الأديرة في مصر أو دور الكتب في شتى أرجاء العالم، وكان الهدف الأساسي هو رسم صورة تفصيلية تحاكي الواقع متخذين من أماكن الحدث ومواطن وطء الأقدام، وهي الأماكن التي حظيت ببناء كنائس وأديرة.
 
لعل خير بداية للخوض في سردية رحلة العائلة المقدسة هو أن الله أرسل ملاكه ليوسف النجار في حلم قائلًا "قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلي مصر وكن هناك حتى أقول لك لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليُهلكه.  فقام وأخذ الصبي وأمه ليلًا وانصرف إلي مصر"  (متى 2 : 13-14).
ولماذا أصلاً كان هروب العائلة المقدسة؟
 
جاءت حكمة السيد المسيح ليجعل من درس الهروب من الشر مخرجا مسالما  بعيدا عن دروب الشر  وتجنب التصدي، بل بنزوحه إلي مصر أسس مبدأ السماحة والوداعة والمصالحة بتجنب أرض الشر، فهو إذن درس للهروب من الفساد الذي ساد في العالم، ويظل للسؤال بقية وهى لماذا كانت مصر هي ملاذ السلام والسلامة؟
لماذا مصر!
عبر الأزمنة الغابرة كانت مصر دوما قبلة الفرار إلى الأمان فقد فر اليها يعقوب وبنوه طلبًا للأمان والنجاة وفرارا من الجوع، كما أن يربعام لاذ بالفرار إلى مصر أيضا طلبًا للنجاة من وجه سليمان الذي أمر بقتله.
 
كما أن مصر كانت مركزًا للعبادات وبأراضيها الخصبة رمزا لحياة الترف والنعيم والرغد.
 
معجزات الرحلة:
لعل أكثر الأمور تشويقا وإثارة في رحلة العائلة المقدسة هي النمط الإعجازي 
ودراسة الأمور الخارقة للعادة التي خصّ الله بها مصر ومجدها بها فظلت شاهدا على بركة وقداسة أرض مصر.
 
المصادر الإخبارية عن رحلة العائلة المقدسة: 
أتت بها سيرة القساوسة والأدب العراقي العتيق التي روت مسيرة العائلة المقدسة وبها ذكرت هذه العجائب مثل رواية الأنبا ثيوفيلس، والأنبا زخارياس، والأنبا قرياقوس وغيرهم ممن أعتبروا أهم المصادر التاريخية، وأصبحت هذه الأطروحات بمثابة مرجعية وثائقية ومنها أستقى كل الباحثون والدارسون أسانيد رواية مسيرة العائلة المقدسة إلى مصر وفيها وتغطية كافة الروايات الملازمة للحدث. 
 
لم تكن هذه الأطروحات وحدها هي مرجعيات توثيق الرحلة وحسب، بل هناك سير ومخطوطات وردت في الكتابات التاريخية المتعلقة بالرحلة مثل مخطوطة "تاريخ الكنيسة لسوزمين"، وكذلك كتاب "تاريخ الرهبنة لبلاديوس" في سياق حديثة عن الأديرة التي تأسست في مواضع النزوح والتوقف التي مرت بها العائلة المقدسة، ويضاف اليها الكثير من الكتب التي تخص كتاب كانوا على وعي بحثي بالرحلة.
 
وليس هذا فحسب، بل هناك أيضًا الأناجيل المنحاة والمعروفة "بالأبوكريفا" والتي صنفتها الكنيسة كنصوص شعبية تعتبر خلطا تراثيا أو مزيجا من الأدب والأساطير والمبالغات الخارقة للمنطق وتضمنت قصص ماورائي يهدف إلى إشباع فضول البعض من أجل فضول المعرفة حول حياة الرب يسوع في طفولته وصبوته، ولهذا اقتصرت جدوى هذه الكتابات على القيمة التاريخية لهم كأطروحات تعود للقرون الأولى للميلاد".
 
معجزات ارتبطت بالرحلة المقدسة
لعل أبرز المعجزات التي ارتبطت برحلة العائلة المقدسة هي معجزة سقوط الأوثان، فقد ارتبطت رحلة العائلة المقدسة عبر أرض مصر بسقوط الوثنية في كافة محطات الرحلة الرئيسية للعائلة والتي كانت تعتبر مراكز العقيدة الفرعونية، ويستمد كل تفسير سقوط أوثان مصر، ففي تل بسطا سقطت الأصنام أمام الطفل يسوع مما جعل أهلها يسيئوا معاملة الأسرة المقدسة ولم يقبلوا أهل المدينة فتقدموا بمسيرتهم في عمق مصر، وفي بابليون حدث نفس الشيء فبسبب سقوط الأصنام لم تستمر العائلة أكثر من أسبوع فسقوط المعبودات ظل دوما يثير حفيظة المصريين فيهاجمون الأسرة المقدسة، وذكر مصدر من القرن الرابع أن الطفل يسوع زار مدينة منف (ميت رهينة حاليا) وسقطت أوثانها وأكمل الخبر أحد الحجاج في القرن السادس عن تحول معبد وثني إلى كنيسة وأضاف أن باب هذا المعبد قد أقفل من تلقاء نفسه أمام الطفل يسوع عندما حضر إلى هذا المكان مع أمه العذراء.
 
وتأصلت أيضا معجزة طبع أقدام يسوع على الصخر، وهي معجزة تخص السيد المسيح بحسب المصادر التي تفردت برواية هذه المعجزات، فقد جاءت الرواية بأن السيد المسيح عندما يضع قدمه أو كفه في موضع ما، يلين الصخر أو التراب موضع قدمه كالشمع وينطبع الأثر سواء أكان قدمه أو كفه فيطبع هذا الأثر.
 
وهناك أيضا معجزات الخير المرتبطة بتدفق آبار المياه، وقد أبلغت الروايات أن تلبية الحاجة لمياه الشرب والاغتسال لم تكن تشكل معضلة حقيقية، ففي كل مرة أثناء الرحلة لدى تحري أي أثر للمياه، كان الطفل يسوع يتكفل بمعجزة تدبير المياه.  
مسار رحلة العائلة المقدسة:
بدأ مسار العائلة المقدسة بالفرار من بيت لحم في فلسطين بسبب اضطهاد "هيرودس" وهو حاكم الجليل الذي أصبح ملكا فيما بعد والذي بسط نفوذه على منطقة شاسعة من هضبة الجولان جنوبا إلى البحر الميت جنوبا.   
استنادا للقراءة المسيحية يعتبر "هيرودوس" طاغيًا، إذ جاء في إنجيل متى أنه أمر بذبح كل مواليد بيت لحم عندما علم أن المسيح قد وُلد فيها، ومن بعده جاء ابنه "هيرودس أنتيباس" فأعدم النبي يوحنا المعمدان، لأنه عارض الملك معارضة شديدة لعلمه انه تزوج من أخته "هيرودية" بعد تطليقها من زوجها فعارضه يوحنا المعمدان بقوة وأمره بتطليقها، ولكن في إحدى الحفلات التي كان يقيمها "هيرودس" في قصره طرب لنغمات الموسيقى التي كانت تتراقص عليها بنت أخته "هيرودية" سالومي، فطلبت منه رأس يوحنا المعمدان، وألحت في الطلب حتى لبى طلبها وهو كره لخشيته من رد فعل الكهنة والكتبة اليهود، إلا أنه نجا بفعلته لكون النبي يوحنا المعمدان يعارض الهيكل كثيرًا فلم يعقب أحدًا من الكهنة أو الكتبة اليهود على ما حدث وقدم لها رأس النبي على طبق.
 
سارت العائلة المقدسة من بيت لحم إلى غزة حتى محمية "الزرانيق" التي تقع غرب مدينة العريش بنحو 37 كم، ودخلت العائلة مصر عبر صحراء سيناء من الجهة الشمالية ناحية "الفرما" الواقعة بين مدينتي العريش وبورسعيد.
 
ودخلت العائلة المقدسة مدينة تل بسطا بالقرب من مدينه الزقازيق بمحافظة الشرقية وهي التي تبعد عن مدينة القاهرة بنحو 100 كم جهة الشمال الشرقي، وكانت المدينة تكتظ بالأوثان، وعند دخول العائلة المقدسة المدينة أسقطوا الأوثان على الأرض فأساء أهلها معاملة العائلة المقدسة فتركت العائلة المقدسة تلك المدينة وتوجهت نحو الجنوب.
 
ثم توجهت العائلة نحو الجنوب حتى بلدة "مسطرد"، ومنها انتقلت شمالاً إلى "بلبيس" بالشرقية، وهناك استظلت العائلة المقدسة عند شجرة عرفت باسم شجرة العذراء مريم، ومن بلبيس عرجت العائلة المقدسة إلى بلدة "منية سمنود"  ومنها عبرت نهر النيل إلى مـدينة سمنود  داخل الدلتا، وهناك استقبلهم شعبها بحفاوة، فباركهم السيد المسيح، ويوجد بها ماجور كبير من حجر الجرانيت يقال أن السيدة العذراء عجنت به أثناء وجودها ويوجد أيضًا بئر ماء باركه السيد بنفسه ومن مدينة "سمنود" رحلت العـائلة المقدسة شمالاً إلى منطقة "البرلس" حتى مدينة "سخا " في كفر الشيخ، وقد ظهر قدم السيد المسيح على حجر ومنه أخذت المدينة اسمها بالقبطية وقد أخفى هذا الحجر زمنًا طويلاً خوفًا من سرقته في بعض العصور واكتشف هذا الحجر ثانية قبل ثلاثة عشر عاما فقط، حسب ما جاء على الموقع الرسمي للهيئة العامة للاستعلامات.
 
وجدير بالذكر أن مسار العائلة المقدسة فد بارك الكثير من المدن والقري مثل "بلقاس" ووادي النطرون وبعض أحياء القاهرة مثل المطرية وعين شمس، ومنطقة مصر القديمة، التي تباركت بوجود العائلة المقدسة ولم تستطع البقاء فيها إلا أياما نظرًا لتحطم الأوثان الذي أثار ذلك سخط  والى الفسطاط  فأراد قتل الصبى عيسى. 
 
وتغلغلت العائلة المقدسة إلى مدن الصعيد، وأقامت فترة لا بأس بها في "القوصية"، وفى طريق العودة سلكوا طريقًا آخر انحرف بهم جبل أسيوط المعروف بجبل "درنكة" وباركته العائلة المقدسة حيث بنى دير باسم السيدة العذراء، ثم وصلوا إلى مصر القديمة ثم المطرية ثم المحمة ومنها إلى سيناء ثم فلسطين حيث سكن القديس يوسف والعائلة المقدسة في قرية الناصرة بالجليل، لتنتهي رحلة المعاناة بعد ثلاث سنوات.
 
يمثل مسار العائلة المقدسة أهمية خاصة للسياحة الدينية في العالم، وقد اعتمدت هيئة تنشيط السياحة المصرية المرحلة الأولى من المسار عبر دراسة أكاديمية، حيث أعلن بابا الفاتيكان إدراج مصر في برنامج حج الفاتيكان. 
 
تهدف الدراسة إلى استخدام المسار كمنتج سياحي متفرد ضمن ضوابط التسويق السياحي للمشروعات التراثية لليونسكو، وقد أسفرت نتائج الدراسة أن خطة الترويج السياحي التي قامت بها هيئة التنشيط السياحي لإعادة إحياء مسار العائلة المقدسة تضمنت تكليف المكاتب السياحية بالخارج بتنفيذ برامج دعائية خاصة بالسياحة الدينية ورحلات تعريفية، وتصميم وإعداد مواد دعائية ترويجية لمنتج العائلة المقدسة وإعداد فيلم عن رحلة العائلة المقدسة، مع رفع كفاءة الخدمات السياحية للمشروع والمناطق المحيطة به وتجهيز مركز للزوار وإقامة قاعات عرض دائمة بالمناطق، وأخيرا طرحت توصيات بإعداد دراسات بحثية نحو إدراج منتج العائلة المقدسة في مصر كأحد مواقع التراث العلمي التابعة لليونسكو، مع ضرورة إيجاد آليات اعتماد دولي لإعلان مصر كمقصد لسياحة الحج المسيحي.