د. منى أبوسنة
استكمالا للمقال السابق، أتساءل: ما المقصود بالتنوير؟ المقصود بالتنوير تحديدا هو تعريف الفيلسوف الألمانى كانط فى مقال قصير شهير بعنوان «جواب عن سؤال: ما التنوير؟»، نشر فى مجله شهرية فى برلين عام 1784، يعرف كانط التنوير بأنه: «خروج الإنسان من حاله اللانضج الاختيارى»، واللانضج هو عجز الإنسان عن إعمال فهمه من غير معونة من الآخرين، وهذا اللانضج هو من صنع الإنسان عندما لا تكون علته مردودة إلى نقص الفهم، وإنما إلى نقص فى العزيمة والجسارة فى إعمال الفهم من غير معونة من الآخرين، «كن جريئا فى إعمال فهمك» هذا هو شعار التنوير.

يبين من هذا التعريف أن الاعتماد التام على الفهم وحده، أى على العقل بدون الاعتماد على سلطة خارجة عن الفعل هو جوهر التنوير، ولذلك أطلق على عصر التنوير فى إنجلترا «عصر العقل»، وهذه السلطة الخارجية فى رأى كانط، تتمثل فيمن يسميهم «الأوصياء» الذين يفرضون سطوتهم عنوة على المجتمع وعلى الجماهير، وينتشرون فى مختلف مجالات الحياة، بل إن كانط يطلق لفظ الأوصياء على أصحاب الكلمة المطبوعة، بيد أن يحمل الفرد مسؤولية سطوة هؤلاء الأوصياء على العقول، لأن الفرد والجماعة يتنازلون طواعية عن حقهم فى التنوير، أى فى الخروج من حاله اللانضج ويؤثرون الكسل والجبن والضعة، وهم بذلك، أى بضعفهم، يخلقون الأوصياء ويمنحونهم القوة وسلطة التحكم فى مصائرهم، ويترتب على ذلك أن يسلم الأوصياء من الأفراد والجماهير الشرط الجوهرى اللازم لتحقيق التنوير وهو الحرية التى يعرفها كانط بأنها «حرية الإعمال العام للفهم فى شتى المسائل»، وإلحاح كانط على هذا النوع من الحرية مردود إلى ضرورة ممارسة إعمال العقل فى حضور الجماهير وليس فى غيبتهم، حيث إن الجماهير هى المنوطة بتغيير المجتمع من مجتمع «التنوير» إلى مجتمع «متنور»، وهو ما كان كانط ينشده لكنه لم يتحقق فى عصره.

ويكشف كانط التنوير فى عبارة واحدة، وهى «الإيضاح»، وهو لفظ يشير إلى مسمى التنوير فى اللغة الألمانية، أى إجلاء الغموض عن أى نص من النصوص، وفى المقدمة النص الدينى. وبذلك يمكن إيجاد علاقة عضوية بين مفهوم التنوير والتأويل على نحو ما حدده الفيلسوف ابن رشد، وهو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية.

ونخلص من ذلك إلى أن التنوير يقوم على ستة شروط وهى:

أولا: الوضوح حيث إن الغاية من إعمال الفهم، أى إعمال العقل، هى أجلاء الغموض من أجل تحقيق الوضوح فى جميع مجالات إعمال الفهم.

ثانيا: الجرأة فى إعمال الفهم وإعمال العقل.

ثالثا: الاعتماد التام على الذات فى إعمال الفهم.

رابعا: الحرية الخالصة، بلا قيود، فى إعمال الفهم.

خامسا: الإعمال العام للفهم، أى ممارسه إعمال العقل من خلال وسائط جماهيرية، سواء كان بالكلمة المطبوعة أو المسموعة أو المرئية.

سادسا: الانتقال من مجتمع «التنوير» إلى المجتمع «المتنور» باعتباره الغاية الآجلة للتنوير.

هذه الشروط الستة إذا تحققت لن تقوم للأوصياء قائمة، ويمكن إيجاز هذه الشروط الستة فى شرطين جوهريين، الأول هو التأويل حيث إن الشروط الخمسة الأولى، أى الوضوح والجرأة والاعتماد على الذات والإعمال العام للفهم والحرية، كلها تفصيلات لماهية التأويل ووظيفته كما تنطوى أيضا على الشروط اللازمة لممارسة التأويل، أما الشرط الثانى فهو الرؤية المستقبلية، باعتبارها المبدأ المحرك للتنوير كفعل حضارى يدفع فى اتجاه التطور والتقدم، وهو ما ينطوى عليه الشرط السادس أى الانتقال من مجتمع التنوير إلى مجتمع متنور.

بيد أن هذه الشروط الضرورية للتنوير لا يمكن الحديث عنها إلا من حيث إنها نتيجة للإصلاح الدينى الذى حقق مشروعية الفحص الحر للنص الدينى، أى حريه إعمال الفهم فى النص الدينى، وتأسيسا على هذا الفحص الحر نشأت مدارس التأويل الفلسفى بعد أن تفرغت عن علم اللاهوت واستقرت عنه.

والإصلاح الدينى، فى جوهره، يقوم على مبدأين: المبدأ الأول هو إجلاء الغموض الكامن فى النص الدينى، وذلك بتأويله تأويلا مجازيا، أى «إخراج دلالة اللفظ من المعنى الحقيقى إلى المعنى المجازى»، على حد تعريف ابن رشد للتأويل، أما المبدأ الثانى فهو الإعمال العام لحرية العقل فى تأويل النص الدينى، وذلك بإتاحة المجال للجماهير لفهم النص الدينى، وذلك بنقله إلى لغة العامة، كما فعل مارتن لوثر، رائد الإصلاح الدينى فى أوروبا فى القرن السادس عشر.

وقد كانت النتيجة الحتمية للإصلاح الدينى هى العلمانية بشقيها المعرفى والسياسى، شقها المعرفى كما يحدده د. مراد وهبة فى كتابه «منهج إلى التنوير» يتمثل فى التفكير فى النسبى بما هو نسبى وليس فيما هو مطلق، أو بالأدق العلمانية محصورة فى عدم تحويل النسبى إلى مطلق، أى عدم مطلقة ما هو نسبى، ويستطرد دكتور مراد وهبة فيقول: ومن هذه الزاوية يمكن القول بأن الدور الفعال والنقدى للعقل هو أساس العلمانية أو الشرط الأول للحداثة، وغياب سلطان العقل يفضى إلى غياب التزام العقل بتغيير الواقع، ومن ثم فإنه يؤدى إلى تجميد الوضع القائم، وهذا بدوره يفضى إلى سلطان الأسطورة والمحرمات الثقافية وهما من سمات الوضع القائم فى الدول المتخلفة.

أما الشق السياسى للعلمانية فهو المعروف والشائع ويتمثل فى فصل السلطة الزمانية عن السلطة الروحية، أى فصل المجال العام للحياة عن المجال الخاص وعدم الخلط بينهما، وهو ما يضمن عدم مطلقة النسبى، وهذا هو ما تحققه القوانين والتشريعات فى مختلف مجالات الحياة، الإصلاح الدينى والعلمانية إذن هما شرطا التنوير.

نخلص من كل ذلك إلى أن مفتاح التنوير يكمن فى عقل المثقفين من جهة والجماهير من جهة أخرى، بشرط أن يعى كل من المثقفين والجماهير مسؤوليتهم تجاه تحقيق الشروط الستة، والتى تلزمهم بمواجهة الأوصياء والتخلص من وصايتهم.

وهنا تثار عدة أسئلة:

- إذا كانت شروط التنوير تتسم بالعالمية وتتجاوز ما هو محلى وخاص، فلماذا تحققت فى أوروبا ولم تتحقق فى المجتمعات العربية؟.

- هل تختلف طبيعة الوصاية، ومن ثم الأوصياء فى المجتمعات الأوروبية عنها فى المجتمعات العربية؟.. إن الاختلاف يكمن فى نوعية المثقفين والجماهير؟.

- ما هى الإمكانات التى طرحت تاريخيا من أجل تأسيس حركة التنوير فى المجتمعات العربية وكيف تم إجهاضها؟.

- ما هى طبيعة الأزمة المترتبة اليوم على هذا الإجهاض؟.

أما المنوط بتنفيذ مشروع 100 مليون عقل متنور فأنا أدعو إلى تكوين مؤسسة تشتمل على ممثلين للوزارات الآتية: التعليم والثقافة والإعلام «المجلس الأعلى للإعلام» والأوقاف والصحة. ومن خلال البحث والدراسة لتلك المؤسسات يتم طرح سياسة أو عدة سياسات تنفيذية تقدم خدمات فكرية وثقافية وعلمية للجماهير من أجل تحويل ذهنيتهم من ذهنية لا عقلانية ولا تنويرية إلى ذهنية عقلانية تنويرية على النحو المشار إليه آنفا.

وفى تقديرى أن الوزن النسبى لأهمية دور الوزارات لتنفيذ ذلك المشروع يكمن فى وزارتى الثقافة والأوقاف. من حيث إطلاعهما بالمهمة الشاقة، وهى مهمة الإصلاح الدينى، أو كما جرى العرف بتسميتها «تجديد الخطاب الدينى» من ناحية، والإصلاح الثقافى أو تجديد الفكر من ناحيه أخرى.

أما مهمة وزارة الصحة فتكمن فى التركيز على قضية تنظيم النسل والحد من الانفجار السكانى فى إطار مشروع التنوير. وغنى عن البيان أن وزارة التعليم تأتى فى الصدارة من حيث إنها المنوطة ببناء جيل من المواطنين يمتلك من الصحة العقلية ما يمكنه من استيعاب وبلورة وتحقيق مشروع التنوير.

أما الإعلام فهو مرآة الجماهير التى سترى فيها هيئتها المستقبلية، وهى فى طريقها إلى التحول من عقلية أسطورية ماضوية إلى امتلاك عقلية ناقدة وتحليلية قادرة على بناء المستقبل.

ولطالما نادى الرئيس عبدالفتاح السيسى بتجديد الخطاب الدينى ثم أتبعه بتجديد الفكر أو ثورة دينية وثورة فكرية. بيد أن الذين طالبهم الرئيس بذلك لم يستجيبوا لندائه حتى الآن. فعلى الدولة أن تقوم بتلك المهمة معتمدة على مؤسساتها فى إطار المشروع القومى الذى أدعو إليه بتأسيس 100 مليون عقل متنور.