خالد عكاشة
#اقتراب_آمن
   
يبدو رئيس الوزراء "آبي أحمد" بعد مرور تلك السنوات في الحكم، وبعد كثير مما جرى خلالها لازال أسير "العقد" العرقية الداخلية، كون أحمد ينحدر من قومية "الأورومو" أكبر اثنيات أثيوبيا، والتي على مدى التاريخ ينظر إلى أبناءها باعتبارهم مواطنون من الدرجة الثانية، مما جعل شعور الدونية قابضا وخانقا على من ينتمون إلى الإقليم والعرقية بصورة متجذرة، أمام عرقيات واثنيات أخرى ظلت على مر الزمن تمارس عليهم حالة استعلاء وتطلق عليهم تسميات عنصرية تحط من قدرهم، أقرب للوضع الذي كان السود يتعرضون له في الولايات المتحدة حتى منتصف القرن الماضي. وأحد أشهر هذه العقد الكامنة لدى أبناء الأورومو أن عاصمة اثيوبيا "أديس ابابا"، تقع في اقليمهم ورغم ذلك يحظر عليهم التعامل بلغتهم الأم وفرضت اللغة الأمهرية عليهم بشكل ساحق، وعلى آخرين من أبناء العرقيات الأخرى بصورة أقل حدة. 
 
المظاهرات وحالة الاحتجاج العنيف التي اندلعت في اقليم الأورومو 2018، خرجت وفي خلفيتها الكثير من موروثات الماضي بداية من الحقبة الملكية الامبراطورية، التي ظلت لما يزيد عن خمسة عقود تنظر إلى هذه العرقية باعتبارها غير جديرة ولا لائقة للحضارة التي تحاول أثيوبيا الحديثة تصديرها عن نفسها للمجتمع الدولي. وكان اختيار "آبي أحمد" الأورومي لأول مرة لمنصب رئيس الوزراء، من العرقية التي تبلغ (40 مليون نسمة) من أصل 115 مليون هو تعداد اثيوبيا، مبشرا بحالة مصالحة عرقية داخلية سرعان ما انتكست بعدما تكشف، أن أحمد قرر أن يمتطي حصان  الأمهرة في سعيه للانقضاض وتحطيم النظام الفدرالي، بل وبدأ سريعا في الاطاحة بقيادات من الإقليم مثلما جرى الأمر مع "ليما ميغيرسا" وزير الدفاع السابق، رغم أن الأخير هو الذي رشح آبي للمنصب بعد الاحتجاجات الكبيرة التي اطاحت بديسالين. وهناك مكونات وشخصيات عدة تعرضت لتنكيل "آبي أحمد" داخل اقليمه، عندما اعتبرهم منافسوه والقادرون على ابعاده سريعا والتشكيك في مشروعه "الاصلاحي" المزعوم، حيث جاءت جريمة اغتيال المطرب والشاعر "هاشالو هونديسا" السجين السياسي الذي تحول إلى نجم موسيقى، أشعلت أشعاره شرارة احتجاجات الأورومو. والمثير أنه في نفس الوقت الذي حاز خلالها "آبي أحمد" سريعا على "جائزة نوبل" للسلام، كان داخليا يطيح برموز أورومية مثل "جوهر محمد" الذي يواجه الآن تهما تتعلق بالإرهاب والتحريض على العنف. مما دفع المؤتمر الفديرالي الأورومي التي ينتمي إليها "جوهر محمد" وجبهة تحرير أورومو، لمقاطعة الانتخابات العامة التي اجريت منذ أسابيع.
 
هذه "العقد" الاثنية؛ ورغبة "آبي أحمد" المحمومة للانعتاق من وطأة مكانته العرقية الأورومية المتدنية، هي التي تدفع به تجاه مغامرات وقفزات في المجهول بدأها بوضع كامل مراهنته على عرقية "الأمهرة"، باعتبارهم قادرون على حمله إلى ضفاف حلمه الامبراطوري الذي كانت تهمس له أمه "الأمهرية" به، كما ذكر أحمد بنفسه ذلك مفتخرا بتحقق النبوءة. وإن كان توليه السلطة في حقيقته لا يعدو كونه جاء بمواصفات احتاجتها الأطراف الدولية حينها، فيمن يتولى مقاليد الأمر في اثيوبيا، أن يكون من "الأورومو" للمرة الأولى في تاريخ اثيوبيا، من أجل نزع فتيل الحرب الأهلية العرقية التي كانت تنذر بها الأحداث حينها، وأن يكون قادرا على تجاوز الاشكاليات الناتجة عن هذا الموروث الاثني المعقد، أو هكذا وعد وكلف من قبل مستخدميه في مرحلة التلميع المركز التي حظى بها. وهو اليوم وقبل أن يجفف صورته ومكانته بعد شهور قضاها في "مستنقع" إقليم "تجراي"، يقف مبللا بالهزيمة المذلة سجينا لحالة متقدمة من انكار الواقع، عندما تحدث أمام البرلمان الاثنين الماضي رافضا اعتبار انسحاب الجيش الفدرالي مؤخرا من إقليم "تيجراي" شمالي البلاد، بمثابة خسارة للحرب. مؤكدا أن الصراع الذي استمر ثمانية أشهر ضد من أسماهم بـ"المتمردين" في تيجراي قد أضعف جبهتهم، وأن جيش بلاده لا يزال يمتلك القوة لكي يقاتل مجددا، خاصة وأن حكومته تستطيع بـ"سهولة" تجنيد مليون مقاتل جديد، لكن من وجهة نظره ثمة حاجة إلى سلام حتى تتقدم البلاد !
 
رئيس الوزراء الاثيوبي بعدما قطع كافة أشكال الاتصال الفضائي والاعلامي عن إقليم "تجراي"، وصارت المعلومات عما يجري هناك مقيدة تماما لشهور وآخرها مفاجأة الاعلان المنفرد لوقف اطلاق النار من جانب واحد، نزوعا إلى سلام لا يدرك أحد مكوناته أو قدرته على انفاذ البعض منه. اضطر على اثر ذلك "جبهة تحرير التجراي" لأن تقوم باستعراض طويل لمسيرة ضخمة جاب فيها، عناصر الجبهة العاصمة "ميكيلي" طوابير من أسرى الجيش الاثيوبي الفيدرالي قدرت أعدادهم بنحو (7000 أسير)، لتقوم عناصر الجبهة أثناء ذلك بتصوير هذه الأعداد الهائلة من الجنود بملابسهم الرسمية "الممزقة" وتوزيعها على وسائل الاعلام، من أجل دحض رواية "آبي أحمد" المزيفة.
 
وفي الوقت الذي لم يشر "آبي أحمد" من قريب أو بعيد للشروط التي وضعته جبهة تجراي، في سبيل موافقتها على وقف إطلاق النار الذي أعلنت عنه الحكومة في أديس أبابا، ففي الوقت الذي تلقى فيه أحمد صدمة لم يتوقعها من العرقية التي حاول اخضاعها، والانتقام من سيطرتها على الحكم لعقود، تتحرك الجبهة في اتجاهات جديدة ظلت متوقعة، منها ما افصحت عنه مباشرة، وهو يتعلق بضرورة خروج كافة القوات الارترية وقوات الأمهرة التي مثلتا قوة الاسناد الضاربة فيما جرى على أراضي الإقليم. وهناك فريق قانوني يقوم بعملية توثيق واسعة بدأت سريعا بحصر، كافة الانتهاكات والمذابح وأعمال العنف الجنسي التي تكبدها اقليم "تجراي" جراء القتال، من أجل رفع الأمر بالوثائق والشهادات للمساءلة الدولية بحق كلا من "آبي أحمد" و"أسياس أفورقي".
 
أحد النتائج المهمة التي تحققت مؤخرا في انتصار اقليم تجراي، هو استعادة سيطرة قادة الجبهة على مطار "ميكيلي" وهذا يفتح الباب انسانيا لوصول المساعدات الملحة، لكن في جانب آخر منه هو يفتح النوافذ أمام الأعين والمحققين والمراقبين، الذين يتجمع لديهم ملف متخم بحجم الكوارث التي ارتكبها نظام أديس أبابا خلال الأشهر الماضية. فوفق الأمم المتحدة تخطى أكثر من (400 ألف شخص) في تيجراي وحدها حد المجاعة، بينما يقف نحو (1.8 مليون) آخر على حافتها، في الوقت الذي تمكنت الجبهة فيه من استرداد كميات كبيرة من العتاد والذخيرة والأسلحة التى تركها الجيش الإثيوبي خلفه، بما في ذلك بطاريات المدفعية الثقيلة، ومنصات صواريخ الدفاع الجوي. وهو ايذانا بدخول أديس أبابا في معادلة اختلال قوى كبير في غير صالحها، بالنظر أيضا إلى أن "آبي أحمد" لن يتمكن خلال الفترة القادمة بمجرد التفكير في استئناف القتال، فقد نزعت عنه الذرائع والأنياب لفترة لازال يلملم وحده جراحها.