د. عوض شفيق
أستاذ القانون الدولي - جنيف
(١)
قيافا واسمه الأصلي "يوسف بن قيافا"، نقلا عن المؤرخ يوسيفوس، كان كاهناً ناجحاً، ودبراً قديراً، كان قيافا بالإضافة إلى ما سبق ابن عائلة ثرية، فتسنى له بسبب ذلك، أن يقترن بابنة رئيس الكهنة حنّان صاحب النفوذ، وأن يخلف فيما بعد حماه في هذه الوظيفة العليا بين اليهود (يوحنا ١٨/١٣)
 
تم تعيين قَيافا رئيساً للأحبار عام ١٨ ميلادية بقرار جاء من حاكم اليهودية "غَلاريوس غراتُس". ومن يتسلم هذا المنصب، رئاسة الكهنة، يصبح بشكل تلقائي رئيساً لمجلس السنهدريم، مجلس الأمة اليهودية، والمقرر الديني والسياسي في الأمة .
 
ولم يتمتع رئيس كهنة بين اليهود في ذلك القرن بما تمتع به قَيافا من قوة، ونفوذ، ودوام في السلطة، بقى في مركزه مدة ١٩ سنة من سنة ١٨م. إلى ٣٧م. وهو رقم قياسي بين مدد الرئاسة لرؤساء الكهنة تلك الأيام.
 
كان قَيافا على تواصل جيد مع الحاكم الرومانى بُنطيوس، وكانت العلاقة بينهما تأسست على فهم دقيق لدور كل منهما في حفظ مقام الآخر. لذلك عاصر كل منهما الآخر نحو عشر سنين بلا مشاكل تُذكر، إذا بقى بيلاطس من من سنة ٢٦م. إلى ٣٦م. في مركزه كحاكم لبلاد اليهودية.
 
كان قَيافا رئيس كهنة اليهود في الزمن الذى زاول فيه يسوع الناصري خدمته في الجليل واليهودية، وكانت له اليد الطُولى في تدبير اعتقاله وإعدامه، ودفع الحاكم، ممثل روما، بُنطيوس بيلاطس، للقيام بذلك في الحكم على المسيح بالموت.
 
وتكشف أقوال الأناجيل شئينا من ثنايا شخصية قَيافا كافية لتقييم مواقفه ولا سيما في ميدان السلطة.
 
السلطة قوة يمكن أن يستعملها صاحبها لتذهب في أي مذهب. يمكن استعمال السلطة لإحقاق الحق، أو تبرئة الجريمة. وكانت محاكمة يسوع أمام قَيافا، وبمسعى منه خير دليل على قدرة الحاكم، أو ولىّ الأمر، على جهل نفوذه يخدم مآربه. ومحاكمة يسوع هي من أشهر المحاكمات في التاريخ البشرى، فقيمتها من قيمة المتهم الذى كان موضوعها. 
 
- أعمال المحبة والعلاقة بالله :
شعر قًيافا بخطورة ما يفعل يسوع في الجليل، عندما بدأت شكاوى ممثليه من الكتبة والفريسيين تصل إليه. وكانت هذه الشكاوى تزداد بقدر ما تزداد نشاطات يسوع ويتسع نطاق محبة الشعب له. وبقدر ما كان يسوع ينتقد الممارسات الدينية لليهود التي تتعارض مع تعليم الشريعة الصريح، كانت الشكاوى تتوالى عليه.
 
ما أثار اعجاب الجموع بيسوع، عندما كان يصلى، يبدأ صلاته بعبارة "يا أبى" ، هذا النوع من حياة يسوع في رسالة المحبة والسلام، وعمل المعجزات، جعلت الناس تعشق هذا المخلص الذى يمسح عن عينها الدموع. ويدلها على علاقة أعمق بالله، علاقة تتأسس على المحبة لا على واجب مفروض. فإن فضيلة المحبة في العلاقة بالله تتقدم على فضيلة القيام بحفظ شريعته كفرض واجب.
 
قد وجد يسوع كل هذه المحبة بين عامة الشعب، ولم يحظ بالتقدير ذاته من قبل حزب الفريسيين وعلماء الشريعة في منطقة الجليل، ولا من رجال الدين وكبار الكهنة في العاصمة أورشليم. كانت هذه الفئات قد أنشأت تقليداً من الممارسات والأحكام مستخلصة من تفسير العلماء لنصوص الشريعة وتم فرضها على الناس، والزامهم بتطبيقها، وكأنها من الله.
جعل علماء الشريعة، زمن يسوع، - والزمن الحاضر- التقاليد الدينية والقيم الدينية في مرتبة أسمى من شريعة الله.
 
- بداية معرفة الحق لأجل تحرير البشر 
كان يسوع هو الشاهد على الأحمال الثقيلة التي يحزمها رجال الدين ويلقونها على أكتاف البشر ويعاونهم في الزمن الحاضر رجال السياسة. ولا يقومون بتحريكها وتعديلها، ولو شيئاً طفيفاً، لمساعدتهم (متى الاصحاح ٢٣). فأبى يسوع أن يسكت عن هذه المظالم الحاصلة بسبب فرض قيود التقليد المتوارث، وبدأ ينادى بأن معرفة نص الشريعة، وتفسيرها تفسيراً سليماً، يحرر البشر ولا يقيدهم. ومن اقوال بسوع في هذا الصدد "وتعرفون الحق، والحق يحرركم" (يوحنا ٨/٣٢)
 
- يسوع أقول وأفعال معاً 
اقتران اقوال المسيح بالأفعال وخرق تقليد الشيوخ وكسر القوانين التي وضعوها لحفظ السبت وذلك بالعمل على شفاء المرضى أيام. ولما قاوم الفريسيون ما يفعله يسوع  أيام السبت وكسر قوانين السبت، قال لهم وأسس لهم قوله لهم: :وٌضع السبا لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت". وقام يسوع أيضا بتجاوز الحلال والحرام في الأكل والشرب، بقوله: "يتنجس الإنسان بما يخرج من فمه لا بما يدخله (مرقس ٧/١٥).  وذهب إلى ابعد من وراح يصادق  ذلك الذين نبذهم المجتمع الديني المتعصب بسبب شرورهم ، ولماً لاموه على مواقفه الإنسانية وتضامنه الإنساني المحب، قال لمنتقديه: "لايحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى" (لوقا ٥/٣١). وتأسست وتبلورت بذلك الأفكار الإنسانية المسيحية في حماية المستضعفين والأقليات الدينية من بطش واجرام قادة الدول والحكومات  والزعماء السياسيين والدينيين 
 
- نفاذ صبر قيافا: اقامة لعازر من الموت
كان الحدث الأبرز الذى استحق تدخلاً مباشراً من قيافا هو لما أقام يسوع العازر.
 
فلقد أيقظ خروج لعازر من القبر، بمشهد من الحاضرين، أذهان الناس الناعسة، فأمنوا بيسوع. غير أن قوماً من المتعصبين استشاطوا غيظاً على يسوع، فذهبوا وأبلغوا السلطات الدينية بما فعل، وعن تنامى المؤيدين له.
 
استدعت خطورة الأمر عقد جلسة لمجلس السنهدريم، بوصفة السلطة القضائية المركزية وعدد اعضاءه ٧٠ عضوا بالإضافة الى رئيسه قيافا ليكون ٧١ وهم من كبار الكهنة. بعضهم كانوا يعتقدون بأن يسوع يهدد سلطتهم الدينية كقادة الأمة، وبعضهم تخوف من أنه إذا استمر يسوع بعمل هذا الكم من المعجزات، فإن الشعب بأسره سيتبعه. وقال أخرون: "إن حركة الشعب قد تتجاوز مجال الضبط، فتنشب حركة عصيان تنتهى بأن تتدخل جيوش الرومان "الوثنيين النجسين" لقمعها، فينكلون بالأمة، ويدمرون هيكلنا المقدس" . (غسان خلف، الله والسياسيون باب "قيافا" ص ١١١-١١٤)
 
وهنا تدخل قَيافا رئيس الكهنة ورئيس الجلسة، وكانت تعابير وجهه تدل على نفاذ صبره في موضوع يسوع، فقد كان يعتبره: المتمرد، مدعى النبوة، الداعية المتجول في الجليل، المتطاول على سلطة الأمة الدينية وحفظة الشريعة، لذلك صاح قيافا بالمجلس بلهجة حادة مليئة باللوم والتوبيخ:
 
- أنتم جهلة، ولا تدركون شيئاً عن عمق الخطر الذى يتهدّدنا. ألا يخطر ببالكم أنه خير لنا لأن يموت إنسان واحد عن الشعب من أن تهلك الأمة كلها. ليهلك واحدُّ ولا نهلك كلنا تحت بطش روما (يوحنا ١١ الآيات ٤٥ الى ٥٠)
 
حسب الظاهر كان كلام قَيافا يتضمن معنى الفداء في سبيل حياة أمة.
 
ولكن من الجريمة بمكان أن يُضحّى ببريء في سبيل خير غيره عنه. قد يستسهل الحاكم التضحية بقليل من البشر في سبيل حياة  الكثير، غير أن البشر ليسوا أرقاما، الطبيعة البشرية وصورة الله فيهم متساوية في القيمة.
 
لقد استغل الطغاة الذين استولوا وعزوا بلاداً واستولوا على الحكم خلال مسيرة التاريخ الأطروحة و الذى نطق بها قَيافا ليقوموا هؤلاء الطغاة بأبشع وأفظع الجرائم وأعمال القتل الوحشي والإبادة . وفى العصر الحالي مازال القادة السياسيون والدينيون يرتكبون جرائم ضد القانون ومازالت تأسيس أحزاب باسم الله تقوم بارتكاب هذه الجرائم الوحشية وجرائم  الحلال والحرام وجرائم  الحرمان وبيع صكوك الغفران وهى جرائم تجار الهيكل.
 
- مكافحة جرائم تجار الهيكل :
ووصلت الأزمة بين يسوع ورجال الدين اليهود إلى ذروتها عندما قصد يسوع مدينة أورشليم، وواجه علماء الشريعة، في أورقة الهيكل، بما كان يُعلمه. وطفح الكيل، عند كبار الكهنة، وتجاوز سيل النقمة ضد يسوع أعلى الرُّبى. بسبب واعتين محدّدتين وقعتا في عقر دار الزعامة والسلطة الدينية:
 
- الواقعة الأولى: عندما دخل يسوع الهيكل وطرد  (بالكرباج) الباعة والتجار، وقلب أقفاص الحيوانات والطيور، وقال بلسان الأب الله "اليس مكتوباً: بيتي بيت الصلاة يُدعى وانتم جعلتموه مغارة لصوص" (مرقس ١١/١٧) والمكتوب هو ما تنبأ به ارميا (٧/١١)، وإشعياء (٥٦/٧) .
 
وكان لسان حال رئيس الكهنة وكبار المجلس، وقد داهمهم الخوف منه:  "من هو هذا كي يتجرأ على القيام بأمر من هذا القبيل في الهيكل، والهيكل يقع تحت سلطاننا المباشر؟ لا نسمح له بالتمادي في تحدى سلطتنا إلى هذا الحد!".
 
- الواقعة الثانية، تلى الأولى، عندما أقبل إليه كبار الكهنة والكتبة، والشيوخ، وسألوه: "من أعطاك السلطان على طرد التجار من الهيكل، ما لك وللهيكل، كيف تجرؤ؟"  فضرب لهم هذا المثل صاحب الكرم والكرامين (مرقس١٢ من ١ الى ٨). وكان هذا المثل يُعتبر الحد الفاصل ونقطة التحّول في مسار العلاقة بين يسوع والسلطة الدينية اليهودية.
 
وانطلاقا من تلك الحوادث، وبالإضافة إلى الشكاوى، وقد تراكمت ضد يسوع بشكل لا يطاق بالنسية لأصحاب السلطة الدينية، شرع كبار الكهنة، والكتبة، والشيوخ، يبحثون عن وسيلة للتخلص منه. وكيفية استصدار أمر وقبض عليه ليقف أمام قَيافا لمحاكمته.
في الحلقة القادمة .