6 ـ الطيف الثالث :مدارس الأحد ... الدور والمسارات  {2 من 2}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كمال زاخر
كان من الطبيعى أن تفكر الكنيسة فى الانتباه للأطفال والنشء حتى تعالج اختلالات الانقطاع المعرفى التى عاشتها فى تأسيس الكلية الإكليريكية، والتى كان لها دور مؤسس فى ضبط بوصلة التعليم، انعطافاً على السعى الدؤوب الذى قام به الأستاذ حبيب جرجس "من أجل حق الطلبة المسيحيين ـ فى المدارس النظامية الحكومية ـ فى تعلم الدين بمدارسهم، وحث الكثيرين على بذل الجهود فى هذا الصدد، وفى عام 1908م نجحت المساعى التى قادها الأستاذ مرقص سميكة باشا عضو مجلس شورى النواب والجمعية التشريعية ومؤسس المتحف القبطى فى أن يصدر سعد زغلول وزير المعارف العمومية قراراً بتعليم الدين المسيحى بالمدارس الأميرية وتكليف طلبة المدرسة الإكليريكية وخريجيها بهذه المهمة. وتم انتداب ناظرها الأول الأستاذ يوسف بك منقريوس للعمل مفتشاً للتعليم الدينى المسيحى بالمدارس الأميرية". "وجاهد حبيب جرجس ونجح فى استصدار قرار من وزارة المعارف لتدريس الدين المسيحى فى مدرسة المعلمين العليا لإعداد أساتذة لتعليم الدين المسيحى بجانب موادهم الأصلية"، وفى ذات السياق قام بتأليف العديد من الكتب التى تم اعتمادها للتدريس فى المراحل التعليمية المختلفة الابتدائية والثانوية.

كان حلم حبيب جرجس متجاوز حدود التعليم الحكومى النظامى، فأعد "مشروع مدارس الأحد" وعرضه على القمص سلامة منصور والاستاذ يوسف اسكندر وكانا ـ فى نفس التوقيت ـ بصدد إتشاء "جمعية الطفل يسوع" وهدفها الاهتمام بالتعليم الروحى للنشء، التى بدأت نشاطها فى الكنيسة المرقسية الكبرى، فتلاقت الإرادات على تفعبل مشروعه، وترجمته على أرض الواقع.

كانت البداية تحمل دلالات مهمة، إذ اعتمدت على اعداد ورقة اسبوعية تشرح انجيل قداس الأحد مزيلة ببعض التأملات، وانتقلت التجربة بشكل حثيث إلى بعض الكنائس بالقاهرة ثم الاسكندرية وبعض المدن والمديريات الأخرى، عبر طلبة وخريجى المدرسة الإكليريكية، بشكل يتناسب وأعدادهم التى لم تكن كبيرة.

يبدو أن حبيب جرجس كان يملك بجانب الرؤية عقلية ادارية تنظيمية مرتبة، ففى غضون عام 1918م. وازاء انتشار الفكرة فى العديد من الكنائس يقوم بتكوين اللجنة العامة لمدارس الأحد، فى خطوة تنقل التجربة من العمل الفردى إلى العمل المؤسسى، ويتم وضع لائحة تنظيمية لها تتحدد فيها اهداف مدارس الأحد ووسائل تحقيقها. وتدور كلها حول التنشئة المسيحية الأرثوذكسية وربط النشء بكنيستهم ومجتمعهم ووطنهم بما يتفق واستيعابهم.

تشكلت أول لجنة من تسعة اعضاء، ستة من الأراخنة (العلمانيين) جاءت غالبيتهم من العاملين بحقل التعليم النظامى فى المدارس الأميرية والقبطية، وثلاثة من الآباء الكهنة، ولم تغب المرأة عنها إذ تم اسناد سكرتاريتها إلى فتاتين. وتوالى تشكيل لجان فرعية فى المدن التى تأسست فيها فروع لمدارس الأحد.
وفى تطور لاحق يتم تشكيل مجلس ادارة لمدارس الأحد ـ 1923م. ـ تسند رئاستة للقمص بطرس عبد الملك ويتولى منصب نائب الرئيس القمص رزق الله جرجس، فيما يصبح حبيب جرجس سكرتيراً لمجلس الإدارة، وعبد السيد اسحق أميناً للصندوق، بينما يعين اثين من اساتذة المدارس الأميرية أعضاء؛كامل جرجس ولبيب العسال.

فى العام 1927 يعاد تشكيل اللجنة العليا لمدارس الأحد بشكل موسع ـ عشرون عضواً ـ وتشهد تغيرات فى المناصب، إذ يتولى الأراخنة مواقع الرئيس ونائبه والسكرتير العام وأمانة الصندوق، فيما يتولى أحد الاباء الكهنة موقع مساعد أمين الصندوق، ويحتل مقاعد الأعضاء ثلاثة اباء كهنة وأحد عشر علمانياً.

يتواصل انتشار فروع مدارس الأحد ويتأصل دورها التعليمى فتصل الفروع إلى 85 فرعاً؛ موزعة بالقاهرة (عشرون فرعاً)، والإسكندرية (فرع واحد)، والوجهين البحرى (سبعة عشر فرعاً)، والقبلى (اربعة واربعون فرعاً)، والسودان (ثلاثة فروع)، والحبشة (فرع واحد).

كان التأسيس مبشراً ومؤكداً على تكاملية الكنيسة، الاباء الكهنة يتفرغون للخدمة الليتورجية والأراخنة للتعليم، ولاحظنا هذا فى منابر الكنيسة كما سبق وأشرنا والتى تولى التعليم من فوقها طيف من الأراخنة فى حضور الآباء الكهنة القائمين على اقامة القداسات والصلوات الطقسية.

كانت مدارس الأحد محل قبول ودعم من البابا كيرلس الخامس، الذى رحب بالفكرة وشهد سنواتها العشر الأولى، حتى رحيله بشيبة صالحة، لكنها واجهت مقاومة من اطياف عديدة داخل الكنيسة، خاصة من العرفاء الذين اعتبروها مزاحمة لهم فى دوائر التعليم، باعتبارهم المتولين شأن "الكتاتيب"، وظهرت فى الكنيسة ثنائية متنافرة، الشمامسة والخدام، والتى استمرت حتى قام البابا كيرلس السادس برسامة اسقف للتعليم، وقد صار فيما بعد البابا شنودة الثالث، ليتصالح الشمامسة مع الخدام ويصيران تياراً واحداً.

العام 1927 يشهد رحيل البابا كيرلس الخامس الذى امتد به المقام على الكرسى الباباوى نحو نصف قرن ويزيد، وكان الداعم الأساسى لفكرة مدارس الأحد، التى تشهد تشكيلاً جديداً موسعاً للجنة العليا لمدارس الأحد، فى وقت يشهد تأسيس نظام التعليم الإلزامى فى المدارس الحكومية (الأميرية)، وتتبلور تكتلات خدمة مدارس الأحد بأحياء القاهرة، وتلحقها الجيزة بعد سنوات قليلة، وكذلك اسيوط والاسكندرية.

كان العالم خارج اسوار الكنيسة يشهد، محلياً ودولياً، تحولات سياسية مؤثرة، لعل ابرزها إعلان بريطانيا ـ من جانب واحد ـ 1922، إنهاء الحماية البريطانية على مصر، وإن ابقت لنفسها حق تأمين مواصلات الامبراطورية فى مصر، وحق الدفاع عنها ضد أى تدخل اجنبى وحماية المصالح الأجنبية، لتصبح مصر مملكة مستقلة عن الدولة العثمانية، ويتحول السلطان فؤاد إلى الملك فؤاد الأول، ملك مصر والسودان. وفى عام 1923 يصدر ايقونة دساتير مصر الذى يؤسس لمبدأ المساواة فى الحقوق والواجبات ويحظر على غير المصريين تولى الوظائف العامة مدنية أو عسكرية.

اللافت ان هذه الحقبة تشهد مولد العديد من الشخصيات المصرية التى قيض لها أن تشكل الخريطة السياسية والدينية لمصر والكنيسة، يتقاطعون اتفاقا واختلافاً، يتراوحون بين الاتفاق والصدام، وبعضهم انقلب بين الموقفين، عبوراً فى بعض اللحظات بالمهادنة.

وقد نكون بحاجة لمن يتناول هذه الحقبة بالتحليل الاجتماعى والنفسى والسياسى والتاريخى أيضاً، ربما ندرك كيف تجمع كل هؤلاء فى جيل واحد. ومعهم رهط من السياسيين والأدباء ومؤسسى التيارات الدينية الراديكالية.

وقد اخترت هذه الشخصيات تحديداً لأنهم فى متابعاتى كانوا اللاعبين الرئيسيين على مسرح الأحداث التى عاشتها مصر والكنيسة باقدار مختلفة، وقد اقتربوا وتباعدوا، كل فى دائرته، وانتهوا كل إلى طريق، كما سبق وأشرنا. لكن خياراتهم، ومواقفهم، وقراراتهم، مازالت محل طرح وربما جدل، أظنه سيظل كذلك حتى ينتهى التناول المشخصن والعاطفى، كما فى السياسة كذلك فى الدين.

والترتيب هنا بتدرج سنة الميلاد.
الرئيس جمال عبد الناصر              1918
الرئيس محمد انور السادات            1918
الأب متى المسكين                      1919
الأنبا غريغوريوس                      1919
الأنبا صموئيل (اسقف الخدمات)      1920
الملك فاروق الأول                      1920
الأنبا اثناسيوس (مطران بنى سويف) 1923
البابا شنودة الثالث                      1923
د. سليمان نسيم                          1923
د. ميلاد حنا                              1924
د.نصحى عبد الشهيد                   1931
الأب باسيليوس المقارى               1934

وحتى لا نتوه فى أزقة تتبع تذهب بنا بعيداً عن طرحنا الذى يتناول مدارس الأحد ـ الطيف الثالث فى مسيرة البحث عن الذات ـ سنحصر تناولنا، لهم، فيما يرتبط بهذه المسيرة، فى تتبعنا لمسارات مدارس الأحد وما شهدته، من تطورات، وهو موضوع حديثنا القادم.