1 ـ التباين الجيلى
يدور الجدل حول ظاهرة الجماعات (الافتراضية) المناوئة للبابا تواضروس، وتلك الداعمة له، والتى تعج بها مواقع العالم الافتراضى. وهى فى تقديرى ظاهرة مرتبطة بالمراحل الانتقالية، خاصة في كيان بحجم الكنيسة القبطية (الأرثوذكسية)، التى تمر بواحدة من هذه المراحل  عقب انتقال قداسة البابا شنودة الثالث، الذي امتدت قيادته للكنيسة لأربعة عقود كبطريرك وقبلا عشر سنوات بكونه اسقفاً للتعليم، واستطاع أن ينقل الكنيسة إلى دوائر اشتبك فيها مع السياسة والقضايا المجتمعية، في ظروف سياسية مرتبكة وعاتية، حتي صار رمزا للأقباط وممثلا لهم أمام الدولة، وعند الأقباط انفسهم، واعاد رسم الهيكل التنظيمي للكنيسة عبر نصف قرن، لأسباب قدرية برحيل مطارنة واساقفة المرحلة السابقة لحبريته تباعاً، وتقسيمه للايبارشيات، وانشاء ايبارشيات جديدة داخل مصر وخارجها، فيصير مجمع الأساقفة الذى كان في سنة البابا الأولى نحو عشرين أسقفا متجاوزاً المئة لحظة انتقاله الي الأخدار السمائية، وبطبيعة الحال يدينون بالولاء لقداسته، فجلهم تشكل وجدانه فى حبريته الممتدة. وكان كثيرون يتوقعون ان يأتى خليفته من الموالاة، وتحديداً من مجموعة الخمسة الكبار الذين يشكلون الدائرة المقربة من قداسته ومن رؤيته.
 
الصدمة ان البابا التالى جاء من خارج دائرة هؤلاء، فضلاً عن التغيرات المباغتة في الفضاء العام بعد حراك ٢٥ / ٣٠، واختلاف ردود فعل البابا الجديد عن البابا الراحل، ازاء الازمات القائمة أو المستجدة، والانتقال من مغازلة الحس الشعبوى بالقرارات الحادة إلى الهدوء وفتح قنوات الحوار. والإنتقال من الإدارة بالفرد الى المؤسسة والشروع في وضع لوائح تنظيمية للهيئات الكنسية.
 
لم يدرك المصدومين أن اختلاف الرؤى أمر طبيعي، لا يستدعى عقد المقارنات بين البابا الراحل ونظيره القادم، أو الانحياز لأيهما، خاصة وان التغيير تجاوز دائرة الكنيسة، لكن هذا لم يمنع  تولد حالة من الرفض عند بعض المتنفذين فى البلاط البابوى، وقد ارتبكت حساباتهم ومواقعهم، وربما خروجهم من دائرة اتخاذ القرار أو التأثير فيه، ومن دائرة الأضواء أيضاً، فظهرت الجماعات المناوءة للبابا الجديد، بتوجيه ودعم منهم بحسب ما يتردد فى الدوائر الكنسية، ووفقا لقانون الفعل ورد الفعل ظهرت جماعات مضادة وأنتجا معا حالة سجس حادة فى الفضاء الكنسى ساعد العالم الافتراضي - بتعدد أدواته - علي شيوعها وصخبها.
 
دعونا نقترب من اسباب الإرتباك، وظنى أن الاختلاف الجيلى يأتى فى مقدمتها، ففيما يحسب البابا الراحل على جيل الثورة الصناعية، وما انتجته من علاقات متباينة مختلفة عن نظيرتها فى المجتمعات الزراعية السابقة عليها، وصراعات قوى اجتماعية جديدة جاءت بها تلك الثورة، توزعت بين القوى الرأسمالية والقوى العاملة، وظهور تيارات سياسية تقف وراء تلك القوى وتدافع عن حقوقها ومصالحها، تتوزع بين الأحزاب والنقابات وغير بعيد عنها الجمعيات الأهلية والثقافية، فصلاً عن تكوينه الفكرى الأدبى، دراسة ومواهب، ومناخات النشأة والتكوبن، ولم يكن بعيداً عن تلك الصراعات ومحاولاته أن يجد لقدمه موقعاً فيها فى صدر شبابه، قبل أن يطرق باب الكنيسة، ويجد موضعاً لها بالقرب من حبيب جرجس مؤسس مدارس الأحد وفى زمن قياسى.
يحسب البابا التالى ـ بقدر ما ـ علي الثورة الرقمية، التى اقتحمتنا وغيرت معادلة العلاقات الإجتماعية والقوى السياسية، التى هجرت التقسيمات الراديكالية، بين اليمين والوسط واليسار، إلى عالم اعقد تشابكاً، واسرع فى تحركه، ومعه تحول العالم إلى قرية كونية صغيرة، رفعت فيها الحواجز والقيود عن المعلومات ودوائر المعرفة، وجعلها متاحة عبر وسائل التواصل الإجتماعى، الأمر الذى أربك طبيعة العلاقات الجيلية، وكانت الكيانات التقليدية الأكثر ارتباكاً والأكثر تأثراً بما حملته من رياح عاصفة، ولم يكن البابا الجديد بعيداً عن الثورة الرقمية بحكم تكوينه العلمي دراسة ومعايشة، لكنه جيلياً يقف فى المسافة بين جيلى الثورتين، الأمر الذى يجعل تعاطيه مع القضايا المعاصرة واشكاليات الإدارة متراوحاً بين معطيات هذه وتلك.