طارق الشناوي
ظل معتزاً بكونه فلاحاً، وفي آخر حوار معه قال لي: (كنت أسير حافي القدمين يومياً من بيتي حتى أصل إلى المدرسة).

ظل في الميدان ممسكاً بالقلم يحارب (طيور الظلام) الذين اعتقدوا أنه من الممكن تغيير هوية الوطن، إلا أنه وقف في خط الدفاع الأول مدافعاً عن مدنية الدولة المصرية، وكثيراً ما كان هدفاً لهم يوجهون إليه ضرباتهم وشائعاتهم.

وحيد لم يكلفه أحد بشيء، ولم تطلب منه الدولة أن يكتب شيئاً. هو قارئ جيد لحياة المصريين ويعرف (شفرة) الإنسان على أرض (المحروسة)، التي يتعانق فيها صوت الأذان في الجامع مع جرس الكنيسة، بلا أي ادعاء. دافع وحيد بقوة عن أي محاولة لطمس الهوية.

أعمق ما قيل عن وحيد هي كلمة ابنه المخرج الموهوب مروان حامد عندما طلبت منه قبل أكثر من شهرين أن يكتب كلمة عن وحيد يضمها كتابي الذي أطلقت عليه (وحيد حامد الفلاح الفصيح)، فقال: (أمشي فخوراً أنك أبي)، هكذا لخصها المخرج الشاب مروان وحيد حامد في كلمتين، اختصرها بعده يحيى الفخراني بكلمة واحدة وصفه قائلاً: (الأفضل).

أصبح يكفينا وزيادة أن نقول وحيد حامد حتى نكتشف حضور قيم الحق والخير والجمال، أحب السينما فأحبته السينما، أحب الناس فأحبه الناس، أحب الله فحبب الله فيه خلقه.

هل مسموح لوحيد بما هو ليس متاحاً لغيره؟ هل الدولة تمنحه هامشاً مقنناً من الحرية، مقابل أنه سوف يمرر بين السطور أفكارها؟ المتربصون يعتبرونه صوتاً للسلطة، تضمن أن أفكارها عن طريق قلمه تصل إلى وجدان الناس لتتبنى قضاياها، فهو يعرف بالضبط ما الرسالة المعلنة وأيضاً المضمرة، لكي يمنحها بفكره وقلمه دائرة جماهيرية أوسع... إلا أنك تكتشف العديد من الوقائع التي كنا شهوداً عليها، تكذّب كل تلك الادعاءات. مسلسل (العائلة) مثلاً الذي واجه مبكراً في منتصف التسعينات، التطرف الديني وعنف الجماعات وغسل المخ، لاقى من الدولة في البداية عنتاً ورفضاً رقابياً قبل أن تسمح بتداوله، وفي وقت تراجع فيه بعض النجوم عن المشاركة ولو حتى بالتمثيل، فإن وحيد قرر خوض المعركة، رغم أنه صار هدفاً استراتيجياً لهم.

لم يكتب فقط أفلاماً استثنائية.. صار قسط وافر منها أيقونات في تاريخنا السينمائي، ولكنه صاحب فكر قبل أن يكون صاحب فيلم. لم تستطع أي سلطة تدجينه. نعم منحوه على مدى أربعة عقود من الزمان أرفع جوائز الدولة، إلا أنه كان قبلها قد رصع صدره بأعز وأنقى وأطهر جائزة؛ وهي وسام الاحترام الذي يحظى به قبل عقود من الزمان من رجل الشارع البسيط.

أتاحت لي الأقدار أن أعرف وحيد منذ نهاية السبعينات، كنت طالباً بكلية الإعلام، أتحسس طريقي الصحافي وأذهب لالتقاط الأخبار من مبنى الإذاعة والتلفزيون، تعرفت وقتها على وحيد حامد كاتباً إذاعياً، مرموقاً، معتزاً بكرامته، كان مدخناً شرساً للشيشة بينما أنا لا أطيق رائحة الدخان، إلا أنني كنت حريصاً من أجل وحيد أن أتحملها لألتقيه في مقهاه المفضل، وهو يحدثني عن أحلامه وأفكاره المقبلة، ظل مخلصاً لقناعاته الفكرية، كما أنه ظل أيضاً مخلصاً لأساتذته الذين سبقوه، محباً لتلاميذه لا يبخل عليهم بالمعلومة. رحل الكاتب، ولكن الكتابة أبداً لا ترحل، فلا تزال إبداعاته حية ترزق وتتنفس بيننا.
نقلا عن الشرق الأوسط