فاروق عطية
  هو اشتباك وقع في 14 يونيو 1906م بين ضباط الجيش البريطاني وفلاحي قرية دمشواي المصرية التابعة لمحافظة المنوفية غرب الدلتا، حيث حدثت معركة بين الفلاحين وخمسة ضباط إنجليز وتطور الأمر إلى مقتل عدد من المصريين بالنار بينهم امرأة، ووفاة ضابطٍ انجليزي بضربة شمس.
 
لاشك في أن حادثة دنشواي هي من حوادث مصر التاريخية التي لا تنسى على مر السنين، لما كان لها من الأثر البليغ في تطور الحركة الوطنية، وفي مركز الاحتلال الإنجليزي، فهي نهاية عهد كان الاحتلال يتمتع فيه بالاستقرار والطمأنينة، وبداية مرحلة جديدة من مراحل الجهاد القومي عم فيها الشعور الوطني بعد أن كان يُظن أن سواد الأمة راضي عن الاحتلال.
 
الأهم في القضية -وهو ما خلدها تاريخياً- رد الفعل الغاشم للسلطة الإنجليزية التي كان مضى على احتلالها لمصر ربع قرنٍ وعلى رأسها اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني بمصر والطريقة المتعجرفة الشنيعة في تنفيذ الأحكام. أدت التفاعلات إلى عزل كرومر وتأجيج الغضب الشعبي ضد المحتل وكل من يتعاون معه.
 
  ترجع هذه الحادثة إلى أن بعض الضباط من جيش الاحتلال وبعض الموظفين البريطانيين كانت لهم عادة أن يتجولوا في بعض القرى والبلاد ليصطادو الطيور ببنادقهم. وفي يوم الإثنين 11 يونيو 1906م غادرت كتيبة من نحو 150 جندياً بريطانياً القاهرة متجهة بطريق البر إلى الإسكندرية وبعد مسيرة يومين وصلت يوم الأربعاء 13 يونيو إلى منوف، فأبلغ خمسة من ضباطها مأمور المركز أنهم يرغبون في صيد الحمام وكان في صحبته عبد المجيد سلطان أحد أعيان بلدة الواط الذي دلهم على دنشواي المشهورة بكثرة حمامها وهي بلدة صغيرة تابعة لنطقة بوليس الشهداء بمركز شبين الكوم، وبالطبع كان الحمام يتجمّع عند أجران الغلال وهي أبراج مخروطية من اللبن تُخزّن فيها غلال الموسم لالتقاط الحبوب. وهؤلاء الضباط هم: الميجور بين كوفن قومندان الكتيبة، والكابتن بول، والملازمان بورثر وسميث ويك، والطبيب البيطري بوستك.
 
   فلما وصلوا إلى كمشوش، وقفوا هنيهة وعسكروا بها مع بقية الجند، ثم ركب الضباط الخمس المركبات التي أعدها عبد المجيد بك سلطان مبتدئين من معدية الباجورية مارين على الناحية سرسنا، ومنها إلى دنشواي، وكان يرافقهم أومباشي من بوليس نقطة الشهداء وترجمان مصري، وذهب الأومباشي إلى العمدة ليبلغه خبر قدوم الضباط لكي يتاخذ التحوطات التي تكفل عدم احتكاكهم بالأهالي، ولكنه وجد العمدة غائباً، ولم ينتظر الضباط حضوره ولا رجوع الأومباشي، وانقسمو فريقين، فريق وقف على السكة الزراعية لصيد الحمام من خلال الأشجار الملتفة هناك وهؤلاء لم يصبهم أحد بسوء، والفريق الآخر جاس خلال أجران القمح في دنشواي ليصطادوا ما بها من الحمام، فاتفق أن حمامتين كانتا واقفتين على جرن مملوك لمحمد عبد النبي مؤذن القرية، وكان يشتغل به أخوه شحاتة عبد النبي، فجاء أحد الضباط الإنجليز وصوب بندقيته على الحمام، أقبل إمام مسجد القرية حسن محفوظ صائحاً بهم كيلا يحترق التبن في الأجران وليأخذوا حذرهم لوجود النساء والأولاد، لكنهم لم يفهموا ما يقول وأطلق أحد الضباط عياراً أخطأ هدفه وأصاب "أم صابر" زوجة مؤذن المسجد، فوقعت عند الجرن وماتت في الحال، واشتعلت النار في التبن. هجم الإمام على الضابط ليجذب البندقية منهُ وهو يستغيث بأهل البلد صارخاً: "الخواجة قتل المرأة وحرق الجرن. الخواجة قتل المرأة وحرق الجرن". تجمهر الأهالي فيما هرع بقية الضباط لنجدة زميلهم، وعلم العمدة فأرسل في الحال شيخ الخفر وخفيرين لإنقاذ الضباط، وعندما وصل شيخ الخفر ومعه الخفراء لتفريق الجموع، وإنقاذ الضباط، توهم هؤلاء أنهم جاءوا يريدون بهم شراً، فأطلقوا عليهم العيارات النارية، فأصاب واحد منهم شيخ الخفر في فخذه فسقط على الأرض وأصاب عيار آخر اثنين أحدهما من الخفراء، فصاح الجميع" "شيخ الخفر قتل! شيخ الخفر قتل!"، اهتاج الأهالي أكثر وحملوا على الضابط بالطوب والعصى الغليظة وأثخنوا من لحقوا بهم ضرباً، فأصيب الميجور بين كوفين قومندان الكتيبة بكسر في ذراعه، وجرح الملازمان سميث ويك وبورثر جروحاً خفيفة وأحاط بهم الخفراء مع زميل رابع لهم وأخذوا منهم أسلحتهم وحجزوهم حتى جاء ملاحظ بوليس النقطة وأوصلهم إلى المعسكر.  
 
والآخران -الكابتن بول قائد الكتيبة وطبيبها- هربا عدْواً وكان الأول منهما قد أصيب إصابة شديدة في رأسه، وأخذا يعدوان حتى قطعا نحو ثمانية كيلو مترات في حرارة القيظ، إذ كانت الواقعة في صميم الصيف، حتى وصلا قرية سرسنا حيث سقط الكابتن بول من الإعياء، ومات متأثراً بضربة الشمس بحسب تقرير الطبيب الشرعي الإنجليزي، وأما الطبيب فركض إلى المعسكر واستصرخ الجند فأسرعوا إلى الكابتن فوجدوه ميتاً ورأوا فلاحاً مصرياً وهو سيد أحمد سعيد يقدم إليه قدحاً من الماء، فظنوه من الضاربين، فأنحو عليه ببنادقهم طعناً ووخزاً حتى هشموا رأسه، ومات بين أيديهم، وذهب دمه هدراً ولم يحاكم أحد من قتلته، وقد عرف هذا القتيل بشهيد سرسنا. وفرّ بعض أهالي سرسنا الذين كانوا متجمعين حول جثة الكابتن بول عندما شاهدوا الجنود الانجليز قادمين، فاقتفى الإنجليز أثرهم وقبضوا عليهم. وصل نبأ هذه الحادثة يوم وقوعها إلى ولاة الأمور في المنوفية والقاهرة، وما أن علم بها رجال الاحتلال وعرفوا أن الكابتن بول قد مات عقب الحادثة، وأصيب الضباط الآخرون، حتى تولاهم الغضب، وعولواعلى الانتقام من أهل القرية التي وقعت بها الحادثة.  
 
 كان رد الفعل الإنجليزي وبالأخص اللورد كرومر المعتمد البريطاني قاسياً جداً وسريعاً، فقد أقام محكمةً عرفيةً عقدت أولى جلساتها في 24 يونيو "بعد تحقيقٍ دام أحد عشر يوماً فقط"، وقدّم 52 قرويًا للمحاكمة بتهمة القتل العمد، ألصقت التهمة بستٍ وثلاثين منهم في 28/ 6/ 1906م (خلال أربعة أيامٍ!!). حُكم بإعدام الإمام حسن محفوظ وثلاثة قرويين، وآخرون تراوحت أحكامهم بين الأشغال الشاقة المؤبدة (محمد عبد النبي مؤذن القرية زوج أم صابر المقتولة، وآخر) وخمس عشرة سنة، وسبع سنين، وسنة، وآخرون بالجلد خمسين جلدةً، مع أن هيئة الدفاع ترافعت بأن تصرف الفلاحين كان عفوياً وردّ فعلٍ على ظروف الحادثة، وتقرر تنفيذ الأحكام ثانيَ يوم صدورها دونما طعنٍ وفي قرية دنشواي نفسها وأمام الأهالي.
 
   تألفت المحكمة من بطرس غالي وزير الحقانية بالإنابة رئيساً وكل من المستر هيثر نائب المستشار القضائي، والمستر بوند وكيل محكمة الاستئناف الأهلية، والقائمقام لادلو القائم بأعمال المحاماة والقضاء بجيش الاحتلال، وأحمد فتحي بك زغلول باشا رئيس محكمة مصر الابتدائية (الأخ الأصفر لسعد زغلول الذي كان وقتئذٍ في فرنسا لدراسة القانون وقيل قاطع أخاه بسبب قبوله عضوية المحكمة)، وعين عثمان بك مرتضى رئيس أقلام وزارة الحقانية سكرتيراً للمحكمة، وكان مدّعي النيابة "إبراهيم بك الهلباوي." وبلغ عدد من قدمتم الادارة لمحاكمتهم في هذه الحادثة إثنين وخمسين متهماً، قدموا جميعأً مقبوضاً عليهم، وسبعة من الغائبين، ولم تُجر محاكمة لقتلة المغدورين الثلاثة من المصريين.
 
   وللحق نجح الهلباوي ليس فقط بتبرئة ضباط الاحتلال وجنوده من القتل وحرق الأجران، وإنما أيضاً في إثبات أنهم كانوا ضحايا، وأن أهالي دنشواي هم المذنبون، واستخدم فصاحته ومواهبه ليثبت أن حريق جرن الغلال كان متعمداً من قبل الفلاحين لإخفاء معالم جريمتهم التي أرادوا منها التحرش بالضباط. وقد ادّعى الهلباوي في مرافعته أن: "الاحتلال الإنجليزي لمصر حرر المواطن المصري وجعله يترقى ويعرف مبادئ الواجبات الاجتماعية والحقوق المدنية!!" وقال أيضاً: "هؤلاء الضباط الإنجليز كانوا يصيدون الحمام في دنشواي ليس طمعاً في لحمٍ أو دجاج، ولو فعل الجيش الإنجليزي ذلك لكنت خجلاً من أن أقف الآن أدافع عنهم!!"، وقال عن الأهالي: هؤلاء السفلة وأدنياء النفوس من أهالي دنشواي قابلوا الأخلاق الكريمة للضباط الإنجليز بالعصي والنبابيت، وأساؤوا ظن المحتلين بالمصريين بعد أن مضى على الإنجليز بيننا خمسةٌ وعشرون عاماً، ونحن معهم في إخلاص واستقامة!!"
   سادت الدهشة والمفاجأة الشعور العام للشعب المصري لصرامة الأحكام وظلمها البيّن، وتحول سراعاً إلى غضبٍ عارمٍ مكبوت، فقام مصطفى كامل (1874-1908م) مؤسس الحزب الوطني بحملةٍ صحفيةٍ داخليةٍ وأخرى دوليةٍ وجولةٍ في أوروبا للتشهير بمظالم الاحتلال وفضح سياسته، وأثار الرأي العام الأوروبي حتي في بريطانيا نفسها فكتب الكاتب الإنجليزي الكبير جورج برنارد شو عام 1906م: "إذا كانت الإمبراطورية البريطانية تود أن تحكم العالم كما فعلت في دنشواي، فلن يكون على وجه الأرض واجبٌ سياسيّ مقدسٌ وأكثر إلحاحاً من تقويض هذه الإمبراطورية وقمعها وإلحاق الهزيمة بها".
   وكان من نتائج ذلك أنِ استدعتِ الحكومة البريطانية عقب تفاعلات الحادثة اللورد كرومر وعزلته من منصبه في 12 أبريل 1907م الذي تبوأه لربع قرن قضاها ممثلاً لها في مصر، وأرسلت خلفه "جورست" بتعليماتٍ بمنح مصر مزيدٍ من الحريات.
 
أما بطرس غالي الذي رأس المحاكمة وأدان المتهمين بناء علي حيثيات (مدعي النيابة ابراهيم الهلباوي واسهابه في تجريم المتهمين وتعظيم وإجلال المعتدي عليهم من وجهة نظره) فقد اغتيل في 20 فبراير 1910م بواسطة صيدلي شاب عضو بالحزب الوطني يدعى ابراهيم ناصف الورداني ذو الأربعة وعشرون عاما "بناء على المبدأ الذي نسير عليه حتي الآن وهو أن المتهم بريئ حتي تثبت ديانته."وطافت الأهالي بشوارع القاهرة يهتفون:"مبروك عليك ياورداني ياللى قتلت النصراني.
 
   وأما إبراهيم بك الهلباوي فقد احتقره الناس ولقبوه بجلاد دنشواي وقاطعه كثير منهم، فلما أحس بفداحة سقطته قرر أن يدافع عن الورداني بنفسه. وقف في محاكمة الورداني يقول: "المصريون كلهم كرهوا محاكمة دنشواي، واحتقروا كل من شارك فيها ودافع عن المحتلين الإنكليز، ولست هنا في مقام التوجع ولا الدفاع عن نفسي، ومع ذلك أستطيع أن أؤكد أن الشعب المصري يحتقر كل من يدافع عن المحتلين أو يأخذ صفهم أو يبرر جرائمهم، وأؤكد أيضاً أن مواطنينا لم يقدروا الظروف التي دفعتني أنا وغيري إلى ذلك، لهذا جئت للدفاع عن الورداني الذي قتل القاضي الذي حكم على أهالي دنشواي بالإعدام، جئت نادماً أستغفر مواطنينا عما وقعت فيه من أخطاء شنيعة، اللهم إني أستغفرك وأستغفر مواطنينا !!"
 
وتسابقت الصحف بما فيها من  الشعراء والأدباء والكتاب إلى تخليد الحادثة، فكان من أثرها أن تبلور المقت الشعبي للاحتلال الإنجليزي ورفضه، وبقي يعتمل في نفوس المصريين ويشحنهم أكثر فأكثر حتى تفجر في ثورة 1919م الخالدة.